أبحاث ودراساتميديا

عقود العمل الفرديّة و”COVID-19″: التأرجح بين التنفيذ والإستحالة/مصطفى المصري

مصطفى المصري*:
مقدّمة:
نظرًا لاستمرار ارتفاع عدد حالات فيروس “COVID-19” حول العالم الذي أعلنته منظّمة الصحّة العالميّة بتاريخ 2020/3/11 بأنّه جائحة، طبّقت معظم بلدان العالم تدابير تقييديّة صارمة للحدّ من انتشار الفيروس. وقد شمل ذلك عمليات الإغلاق والحجر الصحّي علاوة على حظر السفر.
محليًّا، وانطلاقًا من حدّ خطر تفشّي الفيروس، أعلنت الحكومة اللبنانيّة التعبئة العامّة لمواجهة فيروس كورونا المستجد “COVID-19”، حيث اتخذت العديد من التدابير الصارمّة سيّما تعليق العمل في الشركات والمؤسّسات الخاصة على اختلاف أنواعها، الأمر الذي انعكس سلبًا على اقتصادات الشركات والمؤسّسات المعنيّة بالإغلاق. وبالطبع، ستقوم العديد من الشركات والمؤسّسات التجاريّة بمراجعة عقود العمل الفرديّة الحالية مع مستخدميها في ظلّ الإغلاق العام والظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة الصعبة. إذ تميلُ المصالح التجاريّة في ظلّ الأزمة الراهنة إلى تسريح الموظّفين والعُمّال عبر منحهم إجازة من دون راتب أو براتب جزئي، هذا إن لم يتمّ صرفهم نهائيًّا من العمل، وذلك لتقليل خسائر المصالح التجارية للشركة أو المؤسّسة.
وقد عرّفت المادة 624 من قانون الموجبات والعقود عقد العمل على أنّه “عقد يلتزم بمقتضاه أحد المتعاقدين أن يجعل عمله رهن خدمة الفريق الآخر وتحت إدارته مقابل أجر يلتزم هذا الفريق أداءه له”. يتضح من هذا التعريف أنّ الأجير، يقوم بتأجير عمله أو خدمته لصاحب العمل، إذ يضع نفسه تحت إدارته، مقابل حصول على أجرٍ معيّن منه، كبديل عن هذا العمل أو الخدمة. بالتالي، يرتبط فيروس كورونا المستجد بالنشاط الشخصي الذي يقوم به الأجير، بالإضافة إلى تأثير الظروف الاقتصاديّة في ضوء فيروس كورونا على صاحب العمل، بحيث يُعتبر العمل موضوعًا لعقد الإستخدام، ومن مميّزاته بأنّه عقد متبادل الأداء بين الطرفين، حيث يلتزم الأجير بالقيام بتأدية العمل المتفق عليه، بالمقابل يلتزم صاحب العمل بدفع الأجر للأجير. وعليه، يُطرح التساؤل حول مدى قانونيّة صرف المستخدم من العمل في ظلّ الأزمة الراهنة ؟
تبحث هذه المقالة موضوع علاقة عقود العمل الفرديّة بفيروس “COVID-19” وآثاره القانونيّة على المستخدمين في المؤسّسات والشركات الخاصة الخاضعين لأحكام قانون العمل اللبناني وفق المادة 8 منه والتي نصّت على أنّه “يخضع لأحكام هذا القانون جميع أرباب العمل والأجراء إلّا من استثني منهم بنصّ خاص وتخضع له أيضاً المؤسّسات بمختلف فروعها التجارية والصناعية وملحقاتها وأنواعها، الوطنيّة والأجنبيّة سواء أكانت عامّة أو خاصّة، بما فيها من مؤسّسات التعليم، والمؤسّسات الخيريّة. علاوة على الشركات الأجنبيّة التي لها مركز تجاري أو فرع أو وكالة في البلاد(1).
المدخل الأوّل: تنفيذ العقد في ظلّ “COVID-19” كظرف طارئ
بصفةٍ عامّة، تفترض نظريّة الظروف الطارئة وجود عقد تمّ إبرامه في ظلّ ظروف عاديّة، ولكن طرأت حوادث أو ظروف لم يتوقّعها الطرفان في مرحلة التنفيذ، ترتّب عليها أن أصبح تنفيذ العقد مرهقًا لدرجة كبيرة (أي إختلال التوازن الاقتصادي للعقد)، تحمل بين طيّاتها خسارةً فادحة، ولكن رغم ذلك فإنّ تنفيذ الإلتزام العقدي بالنسبة لطرفي عقد الإستخدام لم يصبح مستحيلًا. ولعلّ أفضل تعريف لنظريّة الظروف الطارئة هو أنّه في حال طرأت تغيّرات في الظروف، لم يكن في الوسع توقعها، وترتّب على حدوثها أنّ تنفيذ الإلتزام العقدي، وإنْ لم يصبح مستحيلًا، صار مرهقًا لطرفي عقد الإستخدام، بحيث يهدّده بخسارة فادحة، جاز للقاضي، تبعًا للظروف، وبعد الموازنة بين مصلحة طرفي عقد الإستخدام، أن يردّ الإلتزام المرهق إلى الحدّ المعقول. بالتالي، لنظريّة الظروف الطارئة شروط أربعة لإمكانية إعمال آليتها:
أوّلاّ: أن يكون التغيّر في الظروف تغيّرًا إستثائيًّا أثناء تنفيذ الموجب.
ثانيًا: أن يكون التغيّر في الظروف غير متوقّع عند إبرام العقد.
ثالثًا: وجوب ألّا يكون أحد أطراف العقد قد قبِل سلفًا تحمّل تبعة تغيّر الظروف.
رابعًا: أن تجعل هذه الحوادث تنفيذ الإلتزام مرهقًا لا مستحيلًا(2).
من المعلوم، أنّ جائحة “COVID-19” ظرف إستثنائي عام، لم يكن في الوسع توقّعه وقت إبرام عقد العمل، يبقى السؤال المطروح حول هل هذه الجائحة تجعل من الإلتزام بتنفيذ عقد العمل الفردي مرهقًا لا مستحيلًا؟
قبل الإجابة عن هذا التساؤل، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ قانون الموجبات والعقود لم يتضمّن نصًّا صريحًا تستند إليه النظريّة، فتنصّ المادة 166 منه على مبدأ حريّة التعاقد، فللأفراد ترتيب علاقاتهم القانونيّة كما يشاؤون شرط عدم الإخلال بالقوانين المرعيّة الإجراء. بالمقابل، هناك العديد من النصوص القانونيّة المكرّسة لإعمال النظريّة، كنصّ المادة 5 من القانون رقم 50 تاريخ1991/5/23 (3) الذي جاء فيها “يُعطى الفريق المتضرّر تعويضًا عادلًا عن الضرر اللاحق به بسبب تدنّي النقد الوطني”، بالرغم من أنّ هذه القاعدة ضيّقة ومحصورة بشروطها وتتعلّق فقط بالتعويض، ولا يمكن التوسّع فيها كونها قاعدة استثناء عن الخطر. أيضًا المادتان 562 و563 م.ع. التي تقرّر فسخ عقد الإيجار في حال هلاك المأجور أو تعيّبه، بحيث يصبح غير صالح للإستعمال المعدّ له، والتي تخوّل المستأجر حق تخفيض البدل في حال هلاك أو تعيّب المأجور وبقائه صالحًا للإستعمال، علاوة على غيرها الكثير من النصوص القانونيّة(4). أمّا موقف القضاء المدني اللبناني من نظريّة الظروف الطارئة، فقد جاء بشكلٍ قاطع وحاسم رافض لنظرية تعديل العقود عند تغيّر الظروف وفق أحكامٍ عدّة قضت بها المحاكم اللبنانيّة(5). بَيْدَ أنَّ بعض الفقهاء اعتبر أنّ الإستقرار العقدي لا يتحقّق بالإبقاء على العقد دون تعديل رغم إرهاقه(6)، بحيث إنّ تعديل العقد من شأنه أن يحمي الإستقرار التعاقدي بمنع الزوال الذي يهدّد العقد، وأن يجنّب ما قد يرافق ذلك من تشجيع لسوء النيّة، إذ إنَّ نظريّة الظروف الطارئة تتمأسس من منظور عقود العمل الفرديّة على الإنصاف ومبدأ التنفيذ بحسن نيّة وعدم جواز التعسّف باستعمال الحقّ عبر استغلال الظروف الراهنة.
من ناحية أخرى، اعتمدت بعض التشريعات العربيّة نظريّة الحدث الطارئ في نصوص قانونيّة صريحة وواضحة كسوريا ومصر(7)، كما كرّست فرنسا حديثًا هذه النظريّة بنصّ صريح وواضح في المادة 1195(8) من المرسوم رقم 131 تاريخ 2016/3/10.
مبدئيًّا، ليس هناك من استحالة تنفيذيّة لعقد الاستخدام من جهة الأجير، فبعض المؤسّسات تعمل ولو جزئيًّا (بغضّ النظر عن اختصاص كلّ مستخدم) إذ إنّه باستطاعة الأجير الذهاب إلى المؤسّسة أو الشركة وفق ترتيبات معيّنة تقتضيها المصلحة العامّة لحمايته الشخصيّة وحماية الغير من فيروس كورونا، داخل وخارج المؤسّسة أو الشركة، أو حتّى استخدام وسائل بديلة للعمل عن بُعد. وبالتالي، فإنّ النشاط الشخصي للأجير وهو موضوع عقد الإستخدام لا زال قائمًا بالرغم من الظرف الإستثنائي العام. بالمقابل، يُصبح عقد الإستخدام مرهقًا لصاحب العمل في ظلّ توقّف أو تراجع الحركة التجاريّة، والإرهاق الذي يقع فيه صاحب العمل من جرّاء الحادث الطارئ معيار مرن ليس له مقياس ثابت، إذ إنّ تنفيذ الإلتزام يكون بحيث يهدّد صاحب العمل بخسارة فادحة؛ فالخسارة المألوفة في التعامل لا تكفي، فإنّ التعامل مكسب وخسارة(9). علاوة على ذلك، إنّ الإرهاق نسبي بين المناطق والمحافظات أيضًا، حيث إنّ المناطق ذات الأقلّ عددًا بالمصابين قد تؤثّر إيجابًا بشكلٍ أو بآخر على حركة العمل الاقتصاديّة، وبالتالي أخفّ وطأة على الشركة من المنظور الإقتصادي.
وعليه، إذا توافرت الشروط المتقدّمة الذكر، لا يُعلّق عقد العمل، إنّما يستمرّ العقد بالسريان ويظلّ قائمًا بعناصره القانونيّة ولكن يتفاوض الطرفان وديًّا أو قضائيًّا بنيّة مراجعة العقد لتعديله أو إنهائه، وأنَّ كلّ صرف من الخدمة للأجير يُعتبر صرفًا تعسفيًّا(10). ولكن يجدر التساؤل التالي وهو إلى أيّ مدى يمتدّ هذا الإرهاق في تنفيذ عقد العمل، ومتى يصبح هذا التنفيذ المرهق مستحيلًا في ظلّ الظروف الراهنة؟
المدخل الثاني: إستحالة تنفيذ العقد في ظلّ “COVID-19” كقوّة قاهرة
القوّة القاهرة أو الحادث المفاجئ هو عارض أو ظرف لا يمكن توقّع حصوله وغير ممكن دفعه، أو التغلّب عليه، وهذا العارض أو الظرف لا يكون منسوبًا لأيّ من أطراف عقد الإستخدام، أيّ خارجًا عنهم أو مستقلًّا عن إرادتهم، ويكون من نتيجته إستحالة تنفيذ الإلتزام(11). يتبيّن من هذا التعريف أنّ للقوّة القاهرة ثلاثة شروط يجب توافرها مجتمعة في الحادث حتّى يمكن وصفه بالقوّة القاهرة وهي:
أوّلاً: أن يكون الحادث غير ممكن دفعه أو مقاومته.
ثانيًا: أن يكون الحادث غير متوقّع.
ثالثًا: أن يكون الحدث خارجيًّا عن أطراف عقد الإستخدام أو مستقلًّا عنهم(12).
إنطلاقًا من أنَّ جائحة “COVID-19” ظرف إستثنائي عام، غير متوقّع أثناء إبرام عقود العمل، ولا يمكن دفعه بالرغم من التدابير المتخذة من قبل الحكومة اللبنانيّة، ظلّ التساؤل حول مدى استحالة تنفيذ عقد العمل بين أطرافه في ظلّ الأزمة الراهنة ؟ وهل تُعتبر هذه الإستحالة ذريعةً لصرف الأجراء من العمل؟
قبل الإجابة عن هذا التساؤل، نصّت المادة 50 من قانون العمل اللبناني على أنّه “و- يجوز لصاحب العمل انهاء بعض أو كلّ عقود العمل الجارية في المؤسّسة إذا اقتضت قوّة قاهرة أو ظروف اقتصاديّة أو فنيّة…”. من القراءة الأولى للنصّ، نرى بأنّ مجرّد تحقّق شروط القوّة القاهرة بمعناها الواسع يستطيع صاحب العمل فسخ عقد العمل وصرف الأجير دون أن يكون هذا الصرف صرفًا تعسفيًّا. ومن الواضح أنّ تفشّي “COVID-19” في لبنان وإجراءات التعبئة العامّة اللاحقة سترجّح بأنّ يُعتبر هذا الحدث حدثًا قاهرًا (وهذا ما رجّحته محكمة إستئناف كولمار(13) في فرنسا والحكومة الصينيّة أيضًا)، ولكن في ضوء قانون العمل هناك مسائل تعاقديّة دقيقة وبالتأكيد توجد قيود في تطبيق القوّة القاهرة على عقود العمل الفرديّة.
وعليه، من أجل حماية ديمومة العمل، على أطراف عقد الإستخدام طرح ثلاثة أسئلة بسيطة:
1. هل يوجد بند خاص بالقوّة القاهرة في عقد العمل المبرم بين الأجير وصاحب العمل؟
في حال كانت الإجابةـ “نعم”، هل يتضمّن في صياغة هذا البند عبارة “وباء” أو “جائحة” أو “مرض مُعدى”. بَيْدَ أنّه من النادر عمليًّا تضمين بند القوّة القاهرة في عقود العمل الفرديّة. بالتالي إذا كانت الإجابة بـ “كلا”، يتمّ تطبيق الأحكام العامّة للقوّة القاهرة. إلّا أنّه لم يعد سبب تعليق العقد(14) في قانون العمل يقتصر على المفهوم التقليدي للقوّة القاهرة، فالتعليق هنا، لا يشترط استجماع شروط القوّة القاهرة حسب القانون المدني. إذ إنّ معظم حالات تعليق عقد العمل (مرض الأجير مثلًا) لا يمكن اعتبارها حالات قوّة قاهرة بالمنظور المدني طالما أنّها متوقّعة وشبه إراديّة ويمكن درؤها(15). كما أنّه من حيث آثار تعليق عقد العمل، فإنّه لا يوقف جميع آثار العقد كحال إعفاء القانون المدني بسبب القوّة القاهرة الطرفين من تنفيذ موجباتهما، إنّما تبقى الالتزامات الثانويّة لعقد العمل واجبة التنفيذ (كعدم إفشاء العامل لأسرار العمل أو عدم منافسة صاحب العمل)، فضلًا عن ما تقرّره بعض التشريعات في حالات عديدة استحقاق الأجر كليًّا أو جزئيًّا دون اشتراط الأداء الفعلي للعمل، بحيث يكون هذا المسلك ينطوي خروجًا على ما تقرّره القواعد العامّة بشأن آثار التعليق(16).
2. ما هو مدى استحالة تنفيذ عقد العمل الفردي في ظلّ جائحة “COVID-19” ؟
بادئ ذي بدء، نعني بالإستحالة بأن تكون هناك واقعة تجعل من المستحيل على المتعاقد الوفاء بواجبه القانوني الذي يُنسب إليه الإخلال به، وتُسمّى عادة في مجال المسؤوليّة العقديّة بـ”إستحالة الوفاء”. ويتمّ تقدير الإستحالة بالنسبة للعاقد (حسب قواعد القانون المدني) الذي يتمسك بها عن طريق مقارنة موقفه مع موقف الرجل العادي، وهو موقف الأب الصالح، أيّ أنّ المعيار هنا موضوعي(17)، كما أنّه يحب أن تكون الإستحالة حقيقيّة (مطلقة) لا مجرّد صعوبة في التنفيذ الذي يهدّد بخسارة فادحة لصاحب العمل. وبالتالي، فإنّ التنفيذ قد يصبح في بعض الأحيان غير ممكن لسبب من الأسباب التي قد ترجع إلى القوّة القاهرة، إلّا أنّ الإستحالة تنقسم بحسب أثرها على طرفي عقد الإستخدام إلى دائمة ومؤقّتة. فبالنسبة للإستحالة الدائمة (النهائيّة)، يستحيل على أحد أطراف عقد العمل تنفيذ إلتزاماته، فينتهي العقد من تلقاء نفسه، دون حاجة إلى إجراءات خاصة تقرّر هذا الفسخ، وهنا بإمكان صاحب العمل التذرّع بالمادة 50 فقرة “و” سالفة الذكر حول إنهاء عقد العمل. أمّا إذا كانت الإستحالة الناجمة عن القوّة القاهرة مانعًا مؤقّتًا، هنا لا ينفسخ عقد العمل بل تطبّق بحقّه نظرية تعليق العقد، بحيث يتمّ إرجاء تنفيذ الطرفين التزاماتهما لحين زوال الاستحالة المانعة من التنفيذ عندها يتمّ إعادة كلّ من الطرفين لتنفيذ إلتزاماته(18). بالتالي يجدر التساؤل حول جائحة “COVID-19” واستمراريّتها، فهل تُعتبر إستحالة مؤقّتة أم دائمة؟
لتأقيت الإستحالة شروط، فهي وقتيّة طالما أنّها تنتهي قبل أن يأتي يوم يصبح فيه تنفيذ عقد العمل غير مجدٍ، أي أنّ التأقيت لا يتحدّد فقط بالرجوع إلى قابليّة الإستحالة للإنتهاء في المستقبل بل تحدّد بإطار معيّن، هو ألّا يترتّب على التأخير في التنفيذ زوال المنفعة المرجوّة من عقد العمل. كما أنّ المستقبل لا يمكن التكهّن به على وجه اليقين ويكفي الإحتمال بالرجحان لاعتبار الإستحالة مؤقّتة ما دامت تلوح في الأفق بادرة أمل أو امكانية لانتهائها، وبالتالي تحقيق الإستقرار في الإستخدام وثبات العلاقة التعاقديّة.
من جهةٍ أخرى هناك مدّة التعليق، فالتعرّف على الطابع المؤقّت للإستحالة يكون بالنظر إلى طبيعة علاقات العمل التي ارتبط بها صاحب العمل والمستخدم (أو العامل) وعلى دور المدّة في هذه العلاقة، فالأصل أنّ للمدّة دورًا في كونها فيصلًا بين نوعين من عقود العمل من حيث قابليتها للإنتهاء، محدّد وغير محدّد المدّة(19)، فبقياس مدّة التعليق بمدّة العقد الأصليّة يمكن معرفة ما إذا كانت الإستحالة مؤقّتة أو دائمة. فإذا كانت مدّة التنفيذ تؤدّي دورًا جوهريًّا في تنفيذ العقد (أيّ في حال اتفاق طرفا العقد على تنفيذ عمل خلال مدّة معيّنة أو يكون التسليم بتاريخ محدّد)، فإنّ إيقاف تنفيذ الإلتزام في هذه الحالة يُعد منهيًّا لا موقفًا، وهذا ما يحصل في العقود محددة المدّة.
بناءً على ما تقدّم، نستطيع القول إنّ هناك شروطًا لا بدّ من توافرها في مدّة التعليق، إذ يفترض بهذه المدّة ألّا تستغرق مدّة العقد المتفق عليه أو تزيد عليها، وفي حالة عدم وجود نصّ يحدّد المدّة (إتفاقي، تشريعي) سيتمّ تحديد المدّة بالأخذ بعين الاعتبار طبيعة العلاقة التعاقديّة وهدف كلّ طرف من أطراف العلاقة في الحفاظ عليها وتحقيق استقرار الإستخدام وضمان حسن سير المؤسّسة وانتظامها.
3. هل يمكن اتخاذ تدابير معقولة للتخفيف من الخسائر التي تكبّدها الشريك التعاقدي؟
يجب الوضع في الاعتبار أنّ واجب الرعاية وواجب الولاء ينطبقان على عقود العمل الفرديّة ويفرضان أنّ الأطراف ستفعل أيّ شيء (معقول) ممكن لمحاولة الحدّ من العواقب الضارّة لوضع القوّة القاهرة على العلاقة التعاقديّة. وبالتالي، وجود حلول بديلة للمستخدم والعامل في ظلّ الظروف الراهنة تخفّف من مخاطر الأزمة الاقتصاديّة على صاحب العمل. كما أنّ إظهار حسن النيّة بين طرفي عقد الإستخدام وسط الإكراه الإقتصادي في ظلّ “COVID-19” يُعبّر عن التفاني والإخلاص في العمل والتفاوض جدّيًّا بين الطرفين لإيجاد حلول بحسن نيّة.
خاتمة
إنّنا أمام وضع صحّي عالمي يثير الكثير من التساؤلات، والإشكالات ذات بُعد إقتصادي وقانوني تتطلّب منّا مقاربة حكيمة تضمن التوازن العقدي وتكرّس الدور الأساسي للقضاء في تحقيق الأمن القانوني وحماية الأجراء. وتأسيسًا على ما تقدّم أعلاه، إنّنا نرجح القول بتعسفيّة قرار صاحب العمل في حال إنهاء عقد العمل بناءً منه على تطبيق المادة 50 فقرة “و” منها، حيث إنّ جائحة “COVID-19” تسقط عليها وصف القوّة القاهرة ذات استحالة تنفيذيّة مطلقة لعقود العمل، إنّما مؤقّتة وليست دائمة، وبالتالي تُعلّق عقود العمل ولا تنهيها، مع مراعاة أحكام شروط التعليق ومدّته لكلّ عقد عمل فردي.
بالمقابل، لا يمكن التذرّع من قبل أيّ صاحب عمل أو أجير بالقوّة القاهرة واستحالته لتنفيذ عقد العمل بعناصره، إذ تبقى العبرة بالأحداث المرافقة لتنفيذ عقد العمل والآثار الناجمة عن التنفيذ أو الاستحالة المطلقة لكلّ حالة على حدى. فطالما أنّ التنفيذ ممكنًا بوسائل تكنولوجيّة بديلة مبتكرة، يبقى العقد قائمًا بعناصره وليس بالإمكان التذرّع بالقوّة القاهرة أو الظرف الطارئ. وبالتالي، تبقى الترتيبات التعاقديّة بين الأطراف دون المسّ بكيانها.
المراجع:
(1) يُستثنى من ذلك الخدم في بيوت الأفراد، النقابات الزراعيّة التي لا علاقة لها بالتجارة والصناعة، الموظفون الحكوميون في الإدارات الحكوميّة (يخضع هؤلاء لنظام الموظفين)، المياومون المؤقتون العاملون لدى الإدارة الحكومية والبلديات، معلّمو المدارس الخاصّة.
(2) للإطلاع على المزيد من التفاصيل حول هذه الشروط أنظر: عبدالرّزاق أحمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد- مصادر الإلتزام، المجلّد الأوّل، ط. 3، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت- لبنان، 2000، ص. 717 وما يليها.
(3) قانون رقم 50 تاريخ 1991/5/23 المتعلّق بتعليق المهل القانونيّة والقضائية والعقدية.
(4) من هذه النصوص القانونية، 221، 113، 977، 115 و300، 617 وذلك من قانون الموجبات والعقود. وقد صدرت قوانين خاصة، قرّرت حلولًا صريحة عالجت الصعوبات التي اعترضت العلاقة التعاقدية بنتيجة الحروب والأزمات الطارئة، فنجد نصوصًا تجيز الرجوع عن العقد أو ابطاله عند حدوث ظرف طارئ لم يكن متوقّعا عند التعاقد، وتقضي بتأجيل وفاء الديون (القانون الصادر في 2 نيسان 1981، والقاضي بتقسيط ديون التجّار المتضرّرين من جرّاء الحادث) وغيرها، وخوّلت القضاء حقّ تعديل بعض أنواع العقود التي تأثّرت تأثيرًا هامًا بالأزمات الحاصلة، ومنها بالأخصّ عقود الإيجار لتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر (قانون رقم 160 تاريخ 1992/7/23 ، والقانون المعدّل له رقم 2 تاريخ 2018/2/28).
(5) محكمة إستئناف جبل لبنان، الغرفة الأولى المدنية، قرار رقم 11 تاريخ 1987/1/27، مجموعة إجتهادات حاتم، الجزء 190، ص. 887؛ محكمة التمييز، الغرفة الأولى المدنية، قرار رقم 42 تاريخ 1995/7/13، مجموعة باز، الجزء 34، 1995، ص. 194؛ محكمة التمييز، الغرفة الرابعة المدنية، قرار رقم 34 تاريخ 1999/11/30، مجلة العدل، العدد 2/3، 2000، ص. 189؛ محكمة التمييز المدنية، قرار رقم 10 تاريخ 2000/11/24 ، مجموعة باز، العدد 39، 2000، ص. 257.
(6) سامي منصور، عنصر الثبات وعامل التغيير في العقد المدني، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1987، ص. 112؛ كذلك أنظر إدوارد عيد، أثر إنخفاض العملة على الالتزامات المدنية: نظرية الحوادث الطارئة، منشورات زين الحقوقية، 1990.
(7) أنظر المادة 147.2 من القانون المدني المصري تُقابلها المادة 148.2 من القانون المدني السوري. ومن الدول الأخرى التي تتبنّى نظرية الظروف الطارئة هي بولونيا، الجزائر، فرنسا، الأردن، اليونان، إيطاليا وغيرهم.
(8) “إذا حدث تغيّر في الظروف، غير ممكن التوقّع عند إبرام العقد، ترتّب عليه أن صار التنفيذ باهظ الكلفة بالنسبة لأحد الأطراف الذي لم يقبل تحمّل تبعة هذا التغيّر، يمكن لهذا الأخير أن يطلب من المتعاقد معه إعادة التفاوض على العقد، على أن يستمر في تنفيذ موجباته أثناء إعادة التفاوض.”
(9) عبدالرزّاق أحمد السنهوري، مرجع سابق، ص. 723.
(10) الصرف التعسّفي هو قيام صاحب العمل بصرف الأجير من عمله، دون توجيه الإنذار المسبق له، ودون أسباب مشروعة، تبرّر له هذا الصرف، فيكون قد أساء أو تجاوز استعمال حقّه، ممّا سبّب الضرر للأجير (م. 50 من قانون العمل اللبناني).
(11) محمّد حسن قاسم، القانون المدني: العقد (آثار الإخلال بالعقد- جزاء الإخلال بالعقد)، المجلّد الثاني، ط. 1، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان، 2018، ص. 258.
(12) للمزيد من التفاصيل حول شروط القوّة القاهرة أنظر: مصطفى العوجي، القانون الجنائي: المسؤولية الجنائية، الجزء الثاني، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت- لبنان، 2016، ص. 110 وما يليها.
(13) CA Colmar, ch. 6 (etrangers), 12 mars 2020, n° 20/01098.
(14) يؤدّي تعليق (وقف) عقد العمل إلى عدم تنفيذ الإلتزامات الناشئة عنه مؤقتًا، دون أن يكون لهذا أدنى تأثير على وجوده، أو على العلاقات التي ينشئها بين طرفيه، وذلك لسبب طارئ، إلّا أنّ كِلا الطرفين يعود إلى مزاولة إلتزامه بعد زوال سبب التعليق.
(15) عبدالسلام شعيب، محاضرات في قانون العمل وقانون الضمان الإجتماعي، 2002-2003، ص. 128.
(16) عصام يوسف القيسي، قانون العمل اللبناني، منشورات عشتار، بيروت- لبنان، 1983، ص. 249.
(17) محمّد حسن قاسم، مرجع سابق، ص. 263.
(18) عبدالسلام شعيب، مرجع سابق، ص. 132.
(19) العقد المحدّد المدة هو العقد الذي يتفق طرفاه صراحةً أو ضمنًا على تحديد مدّة له عند التعاقد (عرضيّة أو موسميّة أو مؤقتة بانتهاء عمل ما)، فيتمّ تحديد بدايتها ونهايتها، إلّا إذا تم تجديده. أمّا العقد غير المحدّد المدّة فهو العقد الذي لم يحدّد الطرفان ميعادًا محدّدًا لانتهائه، يكون عادةً من الأعمال ذات الطبيعة المستمرّة.
*ماجستير في قانون الأعمال
“محكمة” – الجمعة في 2020/4/10
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!