مقالات

تدنّي قيمة العملة وأثره على تنفيذ عقود الإيجار/محمّد شامي

المحامي الدكتور محمّد طلال شامي:
يمرُّ لبنان بأزمةٍ اقتصاديَّةٍ قد تكون الأشدّ قسوةً في تاريخه الحديث، حيث تدنّت وبشكلٍ كبيرٍ قيمةُ العملةِ الوطنيةِ مقابل الدولار الأمريكي، بسبب الذين تناوبوا على البقرة الحلوب طيلة ما يقارب الثلاثينَ عامًا.
إنَّ هبوطَ القيمةِ الشرائيةِ للعملة الوطنيةِ له تأثيرٌ مباشرٌ على الحقوق والالتزامات الناشئة عن العقود الموقّعة قبل حصول هذا التدهور النقدي.
والأسئلة التي تُطرَح في هذا المجال تتمثّل بمعرفة مصير بدلات الإيجار المتفق عليها بالدولار الأمريكي؟ فهل أنّ المستأجر ملزم بدفع قيمة بدلات الإيجار بالدولار فقط دون العملة اللبنانية؟ وهل نحن أمام ظرفٍ طارئ أو قوّةٍ قاهرةٍ تجيز للمستأجر التحرّر من التزامه؟ وهل يوجد نصٌّ قانونيٌّ يتيح للقاضي تعديل العقد وإعادة التوازن إليه؟
الإجابة على هذه التساؤلات تستوجب استعراض النصوص القانونية التي ترعى العلاقات التعاقدية وموقف الفقه والاجتهاد في هذا المجال.
نصّت المادة ١٦٦ من قانون الموجبات والعقود اللبناني على أنّه:”للأفراد أن يرتّبوا علاقاتهم القانونية كما يشاؤون”.
كما نصّت المادة ٢٢١ من القانون ذاته على أنّ: “العقود المنشأة على الوجه القانوني تلزم المتعاقدين ويجب أن تُفهم وتُفسّر وتُنفّذ وفقًا لحسن النيّة والإنصاف والعرف”.
إذاً إنّ بنود العقد المتّفق عليها بإرادة حرّة وواعية ملزمة لأطرافِ العقد وأيّ تعديلٍ يجب أن يتمّ بتوافق الفريقين المتعاقدين.
فإن كان قد تمّ الإتفاق بين فريقي عقد الإيجار على أنّ عملة الدفع هي الدولار الأمريكي، فالمستأجر ملزمٌ من الناحيةِ القانونية بدفع بدل الإيجار بالدولار الأمريكي، أمّا إذا كان الاتفاق قد تبلور في نصٍّ صريحٍ بالعقد على أنَّ دفعَ البدل يكون بالدولار الأمريكي أو “ما يعادله بالعملة الوطنية”، فهنا يمكن للمستأجر الدفع بالليرة اللبنانية وفقًا لسعرِ الصرف الرسمي.
لكن في الواقع العملي، فإنّ معظم عقود الإيجار متفق على تسديد بدلاتها بالدولار الأمريكي دون ذكر إمكانية التسديد بالعملة الوطنية.
إزاء هذه الظروف المستجدّة التي تتّصف بالطارئة وليس بالقوّة القاهرة، فهذه الأخيرة تعتبر مانعًا من موانع المسؤولية العقدية ويستحيل معها تنفيذ الإلتزام ممّا يؤدّي إلى فسخ العقد دون أيّ تعويضٍ، أمّا الظروف الطارئة فخلافًا للقوّة القاهرة، لا تفسخ العقد ولا تلغي الالتزام، بل تجعله مرهقًا ويبقى المدين ملزمًا بتنفيذ العقد.
وتجيز نظرية الظروف الطارئة للقاضي إعادة التوازن للعقد، لكنّ المشترع اللبناني لم يعالج تلك النظرية وتطرّق إليها فقط في العقود الإدارية.
لذلك، وبغياب النصِّ الصريح، يجد القاضي نفسه مقيّدًا بمضمون العقد وينحصر دوره بتطبيق النصوص القانونية وتفسيرها فقط، والفقه مجمع على ذلك.
وهذا ما أكّدته أيضًا محكمة التمييز اللبنانية بقرار صادر عن غرفتها الأولى جاء فيه:”حيث إنّ المادة ٢٢١ م.ع. تتعلّق بفهم وتفسير وتنفيذ مضمون العقود وفقًا لحسن النيّة والإنصاف والعدل، فلا يمكن أن يستنتج من صريح نصّها أنَّ القاضي مخوّل بتعديل مضمون هذه العقود عند عدم التعادل بين الموجبات المتبادلة الواردة فيها”.
لذلك، فإنّ حلّ هذه المعضلة المستجدّة بين المؤجّر والمستأجر يستوجب تدخُّلًا سريعًا من المشرّع اللبناني بإقرار نصٍّ قانونيٍّ يعيد التوازن إلى عقود الإيجار بما يتلاءم مع الواقع الاقتصادي المستجدّ، وإلى حين حصول ذلك يمكن للفرقاء الاتفاق مجدّدًا على بدل إيجارٍ جديدٍ يناسب الطرفين، أساسُه الآية القرآنية “ولا تبخَسوا الناسَ أشياءَهم ولا تعثَوا في الأرضِ مفسدين”.
“محكمة” – الجمعة في 2020/5/8

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!