مقالات

ضوابط التشريع في قضايا الأحوال الشخصية/عصام اسماعيل

الدكتور عصام نعمة إسماعيل:
إنّ سلطة مجلس النواب في التشريع ليست مطلقة بل هي محكومة بأحكام الدستور ومبادئه العامة، وفي ميدان الأحوال الشخصية، فإن مجلس النواب مقيّد على الأقل بأن يكون التشريع منطبقاً على المادة التاسعة من الدستور التي تنصّ في إحدى فقراتها على ما يأتي: …الدولة بتأديتها فروض الاجلال لله تعالى تحترم الأديان والمذاهب كافة …. وهي تضمن أيضا للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية”.
في معرض إقرار هذا النص تساءل النائب الراحل يوسف الخازن: … ما القصد من القول وهي تضمن أيضا للأهلين نظام الأحوال الشخصية الخ؟.. فأجابه رئيس المجلس يوسف دموس: القصد منها هو تأييد ما جاء في المادة 6 من صك الانتداب، فالطوائف اعتادت منذ 600 سنة أن تمارس نظام أحوالها الشخصية، لذلك كفلت ذلك عصبة الأمم المتحدة وكفلها هذا الدستور. ثمّ سأل النائب ابراهيم المنذر: والدولة بتأديتها فروض الاجلال الخ ما معناها؟ فأجابه دموس: يعني البلاد مجموعة أديان وكلها أقلية، والدولة لا تنتمي الى أحدها ولكنها “لا دينية” بل تحترم الجميع.
إذا، القاعدة هي أن الدولة مؤلفة من مجموعة أديان عليها أن تحترمها جميعاً ويعني هذا الاحترام النابع من تأديتها فروض الاجلال لله تعالى أن على هذه الدولة واجباً مسبقاً بأن تعرض مشاريع واقتراحات القوانين المتصلة بقضايا الأحوال الشخصية على الطائفة أو الطوائف المعنية بها، لئلا تكون هذه القوانين محلّ طعن أمام المجلس الدستوري حيث منحت المادة المادة 19 من الدستور إلى رؤساء الطوائف المعترف بها قانوناً الصفة للطعن في القوانين المتعلقة حصراً بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني.
ومن هنا، فإذا كان لمجلس النواب حق التشريع في ما يتعلق بتنظيم أوضاع الطوائف والأحوال الشخصية، بما له من سيادة وبما له من حق الولاية الشاملة في التشريع، فإن هذا الحق يبقى ضمن الحدود التي عيّنها الدستور، ودون أن يتعدى ذلك إلى المساس باستقلال الطوائف في إدارة شؤونها الذاتية أو أن يؤدي إلى الحلول محلها في إدارة هذه الشؤون(م.د. قرار رقم 2/2000 تاريخ 2000/6/8).
كما قضى المجلس الدستوري اللبناني أن نصّ المادة التاسعة من الدستور ينطوي على موقف محايد للدولة من الاديان وعلى اعترافها بالاستقلال الذاتي للطوائف في ادارة شؤونها ومصالحها الدينية ويرتب على هذا الاستقلال للطوائف وللجماعات المذهبية المستقلة المختصة بالتعليم وبالاعمال الخيرية التابعة لها تمتعها ايضاً بالشخصية المعنوية. واعتبر أنه حتى الاوقاف الخيرية تعتبر جزءاً من الاحوال الشخصية للطوائف فضلاً عن انها من المصالح الدينية لهذه الطوائف وأن الدستور يعترف للطوائف فضلا عن ذلك بحقوق مختلفة نصت عليها المواد 10 و24 و95 من الدستور ولا سيما المادة 19 منه التي تولي لرؤساء الطوائف المعترف بها قانوناً حقّ مراجعة المجلس الدستوري مما يؤكد اعتراف الدستور للطوائف بالشخصية المعنوية من جهة، وبالاستقلال الذاتي في ادارة شؤونها بنفسها، من جهة ثانية، وبحقها بالتالي في الدفاع عن استقلالها ومصالحها الدينية(م.د. قرار رقم 1/1999 تاريخ 1999/11/23).
لذا، فإن مقاربة الشؤون الدينية من قبل المشرع اللبناني او من قبل المجلس الدستوري تفرض عليهما حدوداً لا يمكن تجاوزها في لبنان نظراً لخصوصية وضعه في تعدد المذاهب (18 مذهباً) ولانعكاس أي تشريعٍ على الوحدة الوطنية وعلى النظام العام وأمن المجتمع ومصلحة الدولة العليا بالوحدة الوطنية وبتجذر النظام الطائفي وتمسك اللبنانيين بمعتقداتهم الدينية الموروثة( د. زهير شكر- الوسيط في القانون الدستوري اللبناني- الكتاب الثاني- طبعة 2006 ص 1020).
ولخصوصية موضوعات الأحوال الشخصية في لبنان المستندة إلى أعراف قديمة تتجاوز الـ 700 عام حتى تاريخه، وهي تعرّف بأنها مجموعة ما يتميز به الإنسان عن غيره من الصفات الطبيعية أو العائلية التى رتّب القانون عليها أثراً قانونياً فى حياته الإجتماعية (محكمة النقض المصرية الطعن رقم 0040 لسنة 03 تاريخ 1934/6/21 مجموعة عمر 1ع صفحة رقم 454 )، فإن المشترع الدستوري لم يعمد يوماً إلى المساس بالمادة التاسعة من الدستور التي تكرّس حقوق الطوائف في قضايا الأحوال الشخصية، بل حتى التعديل الدستوري الشامل لعام 1990 الذي نصّ على الغاء “الطائفية السياسية” وغيرها فإنه لم يتعرض للمادة التاسعة المذكورة، بل على العكس فإنه عزّز من حماية هذه المادة من خلال منح رؤساء الطوائف حق الطعن بأي قانون يمسّ بأي حالة من الحالات التي استعرضتها هذه المادة كما سبق وذكرنا، والسبب أن لهذه المادة علاقة مباشرة بالطوائف وتبرز بشكل او بآخر ما يتفرع عن الطائفية السياسية ومندرجاتها وتفاصيلها (د. خليل حسين، قوانين الأحوال الشخصية ومحاكمها في لبنان، الحياة النيابية العدد 25 لعام 1997 ص 35).
ومن هنا نخلص للقول بأن المطالبات بإجراء تعديل على القوانين الناظمة للأحوال الطبيعية والعائلية في لبنان إنما تصطدم بالمحرّم الدستوري أو العائق الدستوري المرتبط حتماً بالانتظام العام وأمان واستقرار المجتمع، وعليه وحتى تعديل المادة التاسعة من الدستور تبقى موافقة الطوائف المسبقة على أي قانون يمس بالأوضاع والأحوال الشخصية هو ممر إلزامي لا يمكن تجاوزه.
“محكمة” – الإثنين في 2023/8/21

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!