مقالات

بين حكم الإرهاب والقانون: ملاحقة دياب والوزراء وصلاحية”العدلي” والطعن بتعيين صوّان /محمّد مغربي

المحامي الدكتور محمّد مغربي:
لا ريب أنّ بعض الذين تظاهروا أمام بيت قاضي التحقيق العدلي السيّد فادي صوان حسنو النيّة وأنّ البعض الآخر تمّ تحريضهم من جهة سيّئة النيّة تحاول استيلاد حالة تشبه حالة مسلسل الاعدامات بالمقصلة أو بدونها أثناء الثورة الفرنسية التي حصدت آلاف الأبرياء والتي كان جمهور غفير من المؤيّدين يتجمّع حولها، أيّ حول المقصلة، ويهتفون تأييداً لها. وقد وصف هذه الحالة الشخص المنسوب إليه إطلاقها ماكسميليان روبسبيار، وكان من كبار قادة الثورة، بأنّها الإرهاب المقترن بالفضيلة وهدفه حماية الثورة. فأنشئت إلى جانب المقصلة محكمة ثورية! إلاّ أنّ قطع الرؤوس استمرّ بالمقصلة وخارجها وبالمحكمة ودون محكمة ووصل إلى ذروته بإعدام الملك والملكة بقطع الرأس كما قطعت رؤوس عدد كبير من النبلاء الذين تمّ اعتبارهم من الطبقة الحاكمة ولم يتمكّنوا من الهرب خارج البلاد.
واليوم تنتشر مقولة تشبه مقولة الإرهاب مع الفضيلة! وهي: انت سياسي، إذن انت حرامي! وسرعان ما تتغيّر هذه المقولة إلى: أنت من الطبقة الحاكمة سوف نعلّقك على المشنقة! وقد يتمّ ذلك فعلاً سواء عن طريق المشنقة أو على النموذج الداعشي بقطع الرؤوس وكلّ ذلك من أجل إعلاء فضيلة الثورة. ذلك انّ كلّ ثورة، ولو أنّها ابتدأت بيضاء، سرعان ما يتغيّر لونها إلى الإحمرار.
فهل ستكون للقضاة حصانة من الإرهاب مع الفضيلة؟ أبداً فهم من أصحاب السلطة التي ليست فوقها سلطة. ولن تكون هناك من حصانة منه للنوّاب والوزراء والرؤساء وسائر رجال الدولة وكبار الموظّفين الحاليين والسابقين.
وإنّ وقف جرّ البلاد إلى حكم الإرهاب، ولو مع الفضيلة على غرار الثورة الفرنسية، هو اليوم واجب أكثر من أيّ يوم مضى. ولا يكون ذلك إلاّ بإعلاء شأن حكم القانون ونزاهة القضاء.
وإنّ حكم القانون لا يعني حكم القضاة، فإنّ دور القاضي ليس كتابة القانون بل تطبيقه كما كتب بكلّ نزاهة وصدق. وإذا لم يفعل ذلك فإنّه يساهم بفتح الطريق واسعاً نحو حكم الإرهاب مع الفضيلة أو دونها.
وحتّى يتمكّن القاضي من تطبيق القانون بالفعل فإنّه من الضروري، إلى جانب ضمان تحقّق شرط النزاهة أوّلاً، توافر شرطين: الشرط الأوّل أن تكون هناك دعوى له ولاية عليها، والشرط الثاني أن تكون هناك نصوص قانونية قابلة للتطبيق على موضوع الدعوى وهو ما يسمّى الأساس القانوني. وإلاّ فإنّ عمل القاضي مهما كان وصفه هو معدوم الوجود وهو والعدم سواء ولا يلزم أحداً أيّ أنّه لا يترتّب على أحد واجب إطاعته.
واستعرض على سبيل المثال لا الحصر الحالة التي نشأت عن صدور مرسوم إيداع حدث انفجار أو تفجير 4 آب 2020 في مرفأ بيروت كدعوى لدى المجلس العدلي وتعيين قاضي تحقيق يسمّى المحقّق العدلي هو السيّد فادي صوّان. فانطوى المرسوم المذكور على خطأ جوهري نشأت عنه سلسلة أخطاء وصلت إلى حدّ محاولة القاضي صوان استجواب رئيس الوزراء كمدعى عليه في تلك الجريمة دون صلاحية ودون مبرّر وهو ما هلّل له الجمهور الذي ربّما كان وما يزال يتعطّش للدم في بيروت على نحو يذكّرنا بجمهور الثورة الفرنسية. كما أنّ هذا المرسوم ما يزال قابلاً للطعن أمام مجلس شورى الدولة لأنّه لم يتمّ نشره بعد.
ما هو المجلس العدلي؟
إنّه محكمة جنايات استثنائية لا تقبل أحكامها أيّ طريق من طرق الطعن وتحال الدعاوى إليها بمرسوم يتخذّ في مجلس الوزراء (المادة 355 أ.م.ج.) وتنحصر صلاحيتها في جرائم محدّدة (المادة 356 منه).
إذن فإنّ الخطوة الأولى والمسبقة نحو المجلس العدلي هي وجود دعوى حقّ عام سبق تحريكها عن مرجع مختص. وأنّ تحريك دعوى الحقّ العام لا يكون إلاّ بالإدعاء السابق لإحالتها إلى المجلس العدلي.
لكنّ المرجع الصالح لتحريك دعوى الحقّ العام عملاً بالفقرة (ب) من المادة 24 أ.م.ج. هو النيابة العامة الاستئنافية. أيّ النائب العام الاستئنافي أو أحد المحامين العامين لديها.
وليس النائب العام لدى محكمة التمييز بمرجع صالح لأنّ المادة 17 تعطيه حقّ الإدعاء بالجرائم التي تمّت إحالة الدعوى بها الى المجلس العدلي، وكذلك المادة 360 منه، لأنّ دور النائب العام التمييزي لا يبدأ إلاّ بعد إحالة الدعوى إلى المجلس العدلي، وهو الذي يمثّل النيابة العامة لدى المجلس العدلي بعد أن يكون المجلس العدلي قد وضع يده عليها،لا قبل ذلك.
ولا يمكن للنيابة العامة الاستئنافية تحريك دعوى الحقّ العام إلاّ بعد التثبّت من وجود جريمة أيّ فعل جرمي وبعد إجراء الاستقصاء الذي توجبه الفقرة (أ) من المادة 24 أ.م.ج. المذكورة والفقرة (ج) من المادة 25 أ.م.ج. فإذا كان الجرم من نوع الجنحة فلها أن تدعي به أمام القاضي المنفرد، أمّا إذا كان من نوع الجناية، فإنّها تدعي به أمام قاضي التحقيق. وبذلك فقط تتحرّك الدعوى العامة.
وحتّى يصير بإمكان مجلس الوزراء إصدار مرسوم بإحالة، أيّ نقل، هذه الدعوى إلى المجلس العدلي فإنّه يشترط أن يوصف الفعل الجرمي بأنّه من الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي والتي ينصّ عليها قانون العقوبات على النحو التالي:
الجنايات الواقعة على أمن الدولة الخارجي
الخيانة، المواد 273 ـــــــ 280
التجسس، المواد 281 ـــــــ 284
الصلات غير المشروعة بالعدوّ، المواد 285 ــــــ 287
الجرائم الماسة بالقانون الدولي، المواد 288 ـــــــ 294
جرائم النيل من هيبة الدولة ومن الشعور القومي، المواد 295 ــــــ 298
جرائم المتعهّدين، المواد 299 ـــــ 300
الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي
الجنايات الواقعة على الدستور، المواد 301 ــــ 305
اغتصاب سلطة سياسية أو مدنية أو قيادة عسكرية، المواد 306 ــــ 307
الفتنة، المواد 308 ــــ 312
الإرهاب، المواد 314 ــــ 316
الجرائم التي تنال من الوحدة الوطنية أو تعكّر الصفاء بين عناصر الأمّة، المواد 317 ــــ 318
جرائم النيل من مكانة الدولة المالية، المواد 319 ــــ 320
أمّا مجرّد الإهمال الوظيفي فإنّه ليس من الجرائم الواقعة على أمن الدولة. وقد نصّ قانون العقوبات على نوعين من جرائم الإهمال. الأوّل، تحت عنوان إساءة استعمال السلطة والإخلال بواجبات الوظيفة، فنصّت المادة 373 منه على فعل إهمال الموظّف في الإدارات أو المؤسّسات العامة أو البلديات، والثاني تحت عنوان الجرائم المخلّة بسير القضاء، على جريمة إهمال الموظّف المكلّف البحث عن الجرائم أو ملاحقتها وإهمال أيّ موظّف، مطلق موظّف، إعلام السلطة ذات الصلاحية عن جريمة عرف بها. ويوجب القانون في الإدعاء الصادر عن النيابة العامة الاستئنافية وصف الجريمة أيّ الفعل وإنْ لم يعرف مرتكبها.
وفي الحالة الحاضرة أسأل: هل كان هناك من ادعاء في الفعل الجرمي أمام قاضي التحقيق الأوّل في بيروت صادر عن المرجع المختص وهو النيابة العامة الاستئنافية قبل صدور مرسوم إحالة الدعوى، التي لا وجود لها بعد على المجلس العدلي؟ أبداً. فيكون المرسوم المذكور معدوم الوجود، وكذلك يكون قرار تعيين القاضي صوان للتحقيق في “الدعوى” المذكورة.
ولو افترضنا جدلاً وجود الادعاء السابق لمرسوم الإحالة وبالتالي صحّة المرسوم المذكور وصحّة تعيين القاضي صوّان، فإنّه كان على القاضي صوّان أوّلاً التحقيق في الوصف الجرمي للفعل، وما إذا كان هناك من فعل، موضوع الدعوى.
فهل أنّ حادث انفجار المواد المخزّنة في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، هو تلقائي، وكان على سبيل القضاء والقدر فلا يكون هناك من فعل جرمي ! أم هو اعتداء داخلي على أمن الدولة في صورة عمل إرهابي قام به أشخاص فجّروا تلك المواد ؟ أم أنّه اعتداء خارجي على البلد بفعل قنبلة أو صاروخ؟
ولماذا يسقط من الحساب التصريح الخطير الذي أدلى به رئيس الولايات المتحدة يوم 5 آب 2020 في مؤتمر صحفي، وهو القائد العام للقوّات المسلّحة الأمريكية فعلاً لا تشريفاً، بأنّ حدث اليوم السابق لذلك التاريخ هو اعتداء عسكري على لبنان وأنّ في الأمر قنبلة وأنّ كبار جنرالاته أكّدوا له ذلك؟ لكن بعض وسائل الإعلام الأمريكية سارعت إلى إطفاء هذا الخبر الخطير بالزعم أن لا صحّة له!
وأين هو تقرير الأدلّة الجنائية forensic القائم على تحليل آثار الانفجار أو التفجير؟ لا يوجد! وقد نسي أولياء الأمر أنّه في حادث اعتداء العام 2005 الذي أودى برئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ورفاقه تمّ الحرص على منع العبث بمسرح الجريمة والإبقاء عليه سليماً واستمرّت تحقيقات خبراء الأدلّة الجنائية عليه أشهراً بل سنوات؟
فإذا كان القاضي صوّان ينسب إلى رئيس مجلس الوزراء أو أيّ من الوزراء أو النوّاب الحاليين أو السابقين إهمالاً وظيفياً فليس هناك من فعل جرمي يقع تحت طائلة قانون العقوبات ودائماً ضمن اطار صلاحية المجلس العدلي. وهذا القاضي ليس بالمرجع الصالح للتحقيق في جرائم خارج صلاحية المجلس العدلي!
وللتذكير، وعدا عن ما تقدّم، فإنّ المسؤولية الجرمية بحسب النصوص الصريحة لقانون العقوبات تقع على الفاعل والشريك والمحرّض والمتدخّل. وليست هناك من شبهة بأنّ أياً من الناس الذين أوقفهم القاضي صوّان أو يرغب في التحقيق معهم كمدعى عليهم، فاعلون أو شركاء او محرّضون أو متدخّلون في حدث 4 آب 2020 هذا إذا ثبت ان هذا الحدث هو فعل جرمي يمكن وضعه تحت وصف جرائم الإعتداء على أمن الدولة.
يجب ألا ننسى الإجماع الدولي على قاعدة أنّ القرار غير الشرعي، أو الصادر عن مرجع غير شرعي، لا يطاع. وتنفي الشريعة الاسلامية واجب اطاعة السلطان الجائر. وفي رأيي فإنّ قرار القاضي صوّان سماع رئيس الوزراء كمدعى عليه في الدعوى غير الموجودة، والتي لا يعرف بعد طبيعة الحدث موضوعها المفترض، وما إذا كان يؤلّف فعلاً جرماً يمكن وصفه بالإعتداء على أمن الدولة، هو معدوم الوجود وغير واجب الطاعة. وقد يحوّل الاهتمام الشعبي إلى وجهة غير صحيحة ممّا يؤلّف نوعاً من التغطية cover up.
أسند القاضي صوان قراره استجواب الرئيس الدكتور حسّان دياب إلى نصّ المادة 362 أ.م.ج. الذي جاء فيه:”إن أظهر التحقيق وجود مسهم في الجريمة فيستجوبه بصفة مدعى عليه”. لكن هذا القرار معدوم الوجود ومن السخف والظلم الشديدين الإيحاء بأنّ الرئيس الدكتور حسان دياب هو من الذين تسبّبوا بهذه الكارثة.
وإنّ إعطاء مثل تلك الأهمّية التي أَعطيت لهذا القرار المعدوم الوجود يودي بحكم القانون على وجه أكيد ويسهم في وضع البلاد على المسار المؤدّي إلى حكم الإرهاب وتجربة الثورة الفرنسية البائسة معه.
“محكمة” – الأحد في 2020/12/20

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!