أبرز الأخبارمقالات

خطأ طبّي أم إصابة المقدار1؟

بقلم الدكتورة هانيا محمّد علي فقيه2:
إنّ مهنة الطبّ هي مهنة إنسانية3، ورسالة4 إنسانية وسامية قبل أن تكون علاقة تعاقدية قانونية بين المريض والطبيب. وقد استعمل المشرّع اللبناني في المادة الثانية من قانون الآداب الطبّية رقم 288 تاريخ 22 شباط سنة 1994 مصطلح “رسالة الطبيب” دون أيّة مصطلحات أخرى قد تعبّر عن نفس الغاية التي توخّاها المشترع من المادة المذكورة كمصطلح “مهمّة”، “وظيفة”،”عمل”… فالمصطلحات المذكورة لا تشكّل بديلاً عن المصطلح المستعمل لجهة مضمونه والعبرة من استعماله، فالرسالة موضوعها تعبير عن عمل يحتوي على غايات نبيلة، وتجتمع فيها خاصاتان، البعد الإنساني للمهمّة والمصلحة العليا التي تنطوي عليها. وقد جاء في هذه المادة أنّ “رسالة الطبيب تتمثّل في المحافظة على صحّة الإنسان الجسدية والنفسية وقائياً وعلاجياً، وإعادة تأهيله والتخفيف من آلامه ورفع المستوى الصحّي العام” والسبب في ذلك هو أنّ العمل الطبّي موضوعه حياة الإنسان وسلامته الشخصية، وهما بتعبير المادة 139 من قانون الموجبات والعقود “فوق كلّ اتفاق”. وبما أنّ الإنسان ليس معصوماً عن الخطأ، فإنّ الأخطاء الطبّية واردة، شأنها بذلك شأن سائر الأخطاء التي ترتكب من قبل الإنسان في شتّى المهن الأخرى.
على المستوى اللبناني، لا توجد إحصاءات تدلّ على معدّلات الأخطاء الطبّية ونسبة الضرر الحاصل بنتيجتها. إذ غالباً ما نقرأ أحداثاً في الصحف والمجلّات، أو تتداولها وسائل الإعلام عن أخطاء طبّية حاصلة في هذه المستشفى أو تلك، أدّت إلى وفاة أو إعاقة جسدية أو عقلية أو تشوّهات إلخ… وكان أحدثها قضيّة وفاة سيّدة أثناء عملية تسمّى “تجميلية” (قضيّة نادر صعب)، بالإضافة إلى القضيّة التي تتصّل بمستشفى حيث قامت رئيسة قسم الصيدلة في المستشفى باستبدال أدوية طبّية سرطانية بأدوية فاسدة ممّا تسبّب بأضرار طبّية فادحة (قضيّة منى بعلبكي)… إلاّ أنّ هذه الأحداث لا تعكس حقيقة أو نوعية هذه الأخطاء، أو كمّيتها.
أمّا على المستوى العالمي، فتتفاوت معدّلات الأخطاء الطبّية، ولكنّ المعدّل الحقيقي هو غير معروف في أغلب الدول، وذلك بسبب التقاعس في التبليغ عن هذه الأخطاء الطبّية لأسباب عديدة، منها خوف العاملين بالقطاع الطبّي من العقاب، أو من تحمّل المسؤولية، وبالنسبة للمتضرّرين، فقد يكون نتيجة خوفهم من عدم الإهتمام بهم من قبل العاملين في هذا القطاع إذا ما قاموا بالإبلاغ عن الأخطاء، أو لقناعتهم أنّهم لن يستفيدوا من التبليغ شيئاً، وأنّ مطاليبهم لن تلقى آذاناً صاغية5. ومن الأسباب المهمّة لعدم التبليغ أيضاً، هي عدم وجود وعي كافِ أو معرفة واضحة لدى المريض لناحية حقوقه وكيفية تعامله مع مثل هذه الحالات.
إذن، إنّ مسألة الأخطاء الطبّية تفرض نفسها في الواقع، بعد أن أصبحت هذه الأخطاء من المسائل العادية التي تُعرض على وسائل الإعلام وأمام القضاء على حدّ سواء. من هنا أهمّية وضرورة هذا البحث.
أمام هذا الواقع كان التساؤل عن ماهية الخطأ الطبّي وأسبابه؟ وهل أنّ معظم الأخطاء الطبّية تقع نتيجة إهمال أم أنّ الطبيعة البشرية تقبل الخطأ؟ وما هي المسؤولية المترتّبة عن مثل هذه الأخطاء؟.
لم يعرّف المشرّع اللبناني بشكل محدّد الأخطاء المهنية والطبّية6 ، فالمادة 122 من قانون الموجبات والعقود، إكتفت بالنصّ على أنّ “كلّ عمل من أحد الناس ينجم عنه ضرر غير مشروع بمصلحة الغير يجبر فاعله إذا كان مميّزاً على التعويض”. وأعطت المادتان 123 و124 منه صورتان عن الخطأ، كما نصّت المادة 28 من القانون 288/1994 المشار إليه أنّه “لا يلتزم الطبيب بموجب نتيجة معالجة المريض، بل بموجب تأمين أفضل معالجة مناسبة له…”، وقد أكّدت المادة 6 منه فقرة (أ)هذه النظرة بنصّها على أنّه “في حالة تفشّي الأوبئة، أو في حالة حصول كوارث باستثناء حالة القوّة القاهرة يجب على الطبيب:
أ‌- ألاّ يتخلّى عن المرضى الذين يقوم بمعالجتهم إلاّ بعد تأمين استمرار هذه المعالجة بأفضل الطرق الممكنة …” ما حمل الفقه والقضاء أمام النقص التشريعي7 على تعريف الخطأ الطبّي بشكل عام على أنّه “خروج على السلوك المألوف للشخص المعتاد في الظروف المكانية والزمانية التي يكون عليها المدعى عليه، فالخطأ الطبّي قياساً على أنّه الخروج عن سلوك طبيب من أواسط الأطباء كفاءة وخبرة في تخصّصه أو مستواه المهني فأحدث ضرراً للمريض وشكل تصرّفه تقوم عليه مسؤوليته، مع الأخذ بعين الإعتبار الظرف الزماني والمكاني الذي وجد فيهما الطبيب المنسوب إليه الخطأ”. وقد شدّد قانون رقم 288/1994 على هذا الخطأ بأن حدّد معياره وهو:
ب‌- عدم تقديم الطبيب المعالجة المناسبة للمريض بأفضل الطرق (م6 من قانون الآداب الطبّية، بند أ، والمادة 28 من نفس القانون).
كما حدّد هذا القانون طبيعة الخطأ الطبّي على أنّه عدم الإلتزام بأيّة نتيجة، وإنّما هو بمعنى آخر، إلتزام ببذل عناية8، وتقديم أنسب الطرق التي تتناسب مع حالة المريض9 . فالمادة 28 منعت الطبيب المعالج من الالتزام بشفاء المريض، فالمسألة تخرج عن إرادته، وإنّما الإلتزام ببذل أفضل عناية سعياً لشفاء المريض. من هنا يمكن القول بأنّ هذا الموجب هو من النظام العام بحيث يكون باطلاً كلّ إتفاق بين الطبيب والمريض يلتزم فيه الطبيب بشفاء المريض.
من أوجه الأخطاء الطبّية وجهان أساسيان:
الأوّل – الخطأ الطبّي الفنّي : وهو ذلك النوع المتعلّق بمخالفة أصول مهنة الطبّ والقواعد العلمية والفنّية للمهنة، وذلك يكون نتيجة للجهل بتلك الأصول الطبّية أو عدم تطبيقها بشكلها السليم.
ومن أبرز الأخطاء الفنّية الحاصلة في الميدان الطبّي نذكر: الخطأ في تشخيص المرض، الخطأ في علاج المرض، الخطأ في التخدير، إفشاء السرّ الطبّي10.
الثاني- الخطأ الطبّي المادي: وهذا الخطأ يتعلّق بعدم أخذ واجبات الحيطة والحذر العامة، من قبل الطبيب أو مساعديه الطبّيين، أثناء أداء واجبهم اتجاه المريض.
ومن أبرز الأخطاء المادية الحاصلة في الميدان الطبّي نذكر: الخطأ في الجراحة، الخطأ في التعقيم..
أمّا أسباب هذه الأخطاء الطبّية، فيمكن إجمالها بما يلي:
• ممارسة مهنة الطبّ دون الإستحصال على إجازة بهذا الشأن من وزارة الصحّة العامة11.
• عدم الإلتزام بمراعاة الأصول والقواعد العلمية والفنّية لمهنة الطبّ.
• الخطأ في فحص المريض أو علاجه بالتوقيت المناسب والطريقة السليمة.
• ضعف الكفاءة لدى بعض الأطباء، أو لدى مساعديهم الطبّيين.
• عدم مراقبة المريض بشكل جيّد في المستشفيات .
• عدم توقّع النتائج قبل البدء بعملية تشخيص المرض ووصف العلاج له .
• الإهمال في تعقيم الأدوات الطبّية التي يتمّ استعمالها في العمليات الجراحية ممّا يؤدّي إلى انتقال العديد من الفيروسات أو الأمراض الأخرى، ويشكّل تهديداً مباشراً لسلامة المريض.
• البطء الشديد في معالجة المرضى وخاصة في الحالات المرضية الخطيرة أو الطارئة .
• عدم القيام بعمل التحاليل، والفحوصات اللازمة لعملية التشخيص والعلاج.
• عدم الإهتمام بالتحرّي عن التاريخ الصحّي للمريض، أو بتكوين ملفّ خاص به يحتوي على كافة التفاصيل اللازمة لمعرفة حالته الصحيّة ويشمل جميع كلّ تلك الفحوصات له، وذلك من أجل الإستعانة بها، والرجوع إليها في حالة انتقال المريض من مكان إلى آخر لتلقّي العلاج.
• إختيار أو صرف الدواء الخاطئ.
• تأخير النظر في حالة المريض الحرجة….
• إخلال الطبيب بموجب الإعلام الذي نصّت عليه المادة 3 فقرة 2 من قانون الآداب الطبّية12، ولا سيّما لجهة أخذ موافقة المريض أو من يمثّله قانونياً قبل إجراء العملية الجراحية، بعد شرح حقيقة العملية والنتائج، أو المضاعفات المحتملة لها.
هذه الحالات الموثّقة بقرارات قضائية مستمرّة وغيرها تشكّل إخلالاً من الطبيب بواجباته التي تفرضها القوانين النافذة أو أصول ممارسة مهنة الطبّ، والطبيب أو الطاقم الطبّي13 الذين يرتكبون أخطاء طبّية هم عرضة للمساءلة المسلكية أو القانونية التالية:
المسؤولية المسلكية:
نصّ القانون المتعلّق بإنشاء نقابتين للأطباء في لبنان المعدّل بموجب القانون رقم 313/2001 في المادة 38 منه على إنشاء مجلس تأديبي يتولّى محاكمة الأطباء المخلّين بواجباتهم المهنية والمسلكية، تحال المخالفات المسلكية إلى مجلس التأديب (م 39 من نفس القانون) بناء على شكوى مقدّمة من وزارة الصحّة العامة، أو من أحد المتضرّرين طبيباً كان أو غير طبيب، أو بناء على طلب النقيب، أو بناء على طلب الطبيب الذي يرى نفسه موضوع تهمة غير محقّة فيعرض أمره عفواً لتقدير المجلس التأديبي.
ويجب على المريض المتضرّر لملاحقة الطبيب أمام النقابة، أن يطلب الملفّ الطبّي من المستشفى، وتقوم لجنة التحقيقات المهنية المنصوص عليها في المادة 31 من قانون إنشاء نقابتين للأطبّاء في لبنان؛ والتي يدخل ضمن مهامها درس الأمور والنزاعات الناشئة بين الأطباء أو بينهم وبين مرضاهم والمحالة إليها من النقيب أو من المجلس؛ بإجراء التحقيقات اللازمة عند الإقتضاء وترفع تقريرها إلى مجلس النقابة، ولها أن تستعين عند الحاجة وعلى سبيل الخبرة، بالأطباء والأساتذة الجامعيين وبالمستشار القانوني للنقابة.
وتطبّق بحقّ أيّ عضو من أعضاء النقابة لبنانياً كان أم غير لبناني، الذي يخالف واجبات مهنته أو الذي يعرّض كرامته لما يمسّ شرفه أو استقامته أو كفاءته ، إحدى العقوبات الآتية (م37):
– التنبيه.
– اللوم.
– التوقيف المؤقّت عن العمل لمدّة لا تتجاوز الستّة أشهر.
– المنع من ممارسة المهنة نهائياً.
إنّ الطبيب الذي يعاقب بالتوقيف المؤقّت يمنع من مزاولة المهنة طيلة المدّة المعاقب بها.
المسؤولية القانونية:
وتنقسم هذه المسؤولية إلى قسمين:
أوّلاً- مسؤولية مدنية: وهي تترتّب عند ارتكاب الطبيب خطأً طبياً سبّب ضرراً للمريض، دون أن يشكّل جرماً جزائياً بحدّ ذاته، فيتوجّب عليه التعويض عن العطل والضرر الحاصل من جرّاء ذلك للمريض المتضرّر. ومسؤولية الطبيب هذه قد تتعدّى نطاق أفعاله الشخصية إلى الأفعال المرتكبة من قبل المساعدين الطبّيين والممرّضين العاملين لديه، كما قد تمتدّ أيضاً إلى مختلف الأضرار الناجمة عن الآلات والتجهيزات الطبّية وحتّى أدوية العلاج الموضوعة تحت تصرّفه. فنطاق مسؤولية الطبيب المدنية إذن، قد تكون:
-عن أفعاله الشخصية.
-عن أفعال الغير.
-عن أفعال الأشياء.
ثانياً- مسؤولية جزائية: في الحالة التي يكون فيها الخطأ الطبّي جرماً معاقباً عليه، يتقدّم المتضرّر بشكوى حيث مقام الطبيب المدعي عليه أمام النيابة العامة الجزائية، أو القاضي المنفرد الجزائي أو قاضي التحقيق، ويجري إبلاغه في مركز عمله أو في مكان ارتكاب الخطأ الطبّي أو في مكان وقوع الضرر14.
وفي هذا المجال، فقد نصّت المادة 186 من قانون العقوبات على أنّه “لا يعدّ جريمة، الفعل الذي يجيزه القانون:
العمليات الجراحية والعلاجات الطبّية المنطبقة على أصول الفنّ شرط أن تجري برضى العليل، أو رضى ممثّليه الشرعيين، أو في حالات الضرورة الماسة”.
إذن، عند ارتكاب الطبيب جرماً جزائياً بحقّ مريضه، تطبَّق عليه القواعد العامة المتعلّقة بالمسؤولية الجزائية15 بجرائم التسبب بالإيذاء أو الوفاة إذا كان الجرم نتيجة خطأ، وقواعد المسؤولية الجزائية في الجرائم القصدية إذا كان الفعل قصدياً.
بالإضافة إلى مسؤولية الشخص الطبيعي، أي الطبيب عن أفعاله الجرمية، فهناك أيضاً، مسؤولية الشخص المعنوي، أيّ المستشفى عند ارتكابها أفعالاً جرمية، فبحسب المادة 210 من قانون العقوبات اللبناني، ” أنّ الهيئات المعنوية مسؤولة جزائياً عن أعمال مديريها وأعضاء إدارتها وممثّليها وعمّالها عندما يأتون الأعمال باسم الهيئات المذكورة، أو بإحدى وسائلها، ولا يمكن الحكم عليها إلاّ بالغرامة والمُصادرة ونشر الحكم”. إذن يمكن توقيف عمل المستشفى بالكامل، بعد أن تتمّ مصادرة معدّاته وإلزامه بالتوقّف عن العمل.
ومن الأمثلة الشائعة على الأفعال الجرمية التي يمكن أن ترتكبها المستشفى بحقّ المرضى، هي حالة امتناعها عن استقبال مريض في حالة خطرة ، فهذا الفعل يعدّ جريمة يُعاقب عليه القانون، بمعزل عن أيّ حجّة أو مبرّر، إذ تنصّ المادة 567 من قانون العقوبات اللبناني على ما يأتي:
“من وجد بمواجهة شخص في حال الخطر بسبب حادث طارئ أو بسبب صحّي، وكان بوسعه إغاثته أو إسعافه بفعل شخصي أو بطلب النجدة ودون أن يعرّض نفسه أو غيره للخطر، وامتنع بمحض إرادته عن ذلك، يُعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وبالغرامة من مائتي ألف ليرة إلى مليوني ليرة أو بإحدى هاتين العقوبتين”.
نختم بالقول إنّ البحث في مسؤولية الطبيب عن أخطائه الطبّية هي مسألة في غاية الدقّة، فليس من المقبول التشهير بالطبيب، ولا إطلاق التهم بوجهه بصورة عشوائية من قبل إعلام غير مدرك وواع أو مميّز بين الخطأ الحقيقي والإهمال، وبين المضاعفات الجانبية والمتوقّعة الحدوث بنسبة معيّنة لكلّ حالة مرضية، والتي لا يمكن إعتبارها أخطاء طبّية بالمعنى الحقيفي لهذا المصطلح، إنّما هي أخطاء إنسانية طبيعية متوقّعة الحدوث، ومن الخطأ معاقبة من يقدم على عمل طبّي وتترتّب عليه مثل هذه المضاعفات الجانبية، لأنّ ذلك لن يقلّل من وقوعها مستقبلاً، فضلاً عن أنّ المعاقبة ستدفع بالعاملين في القطاع الصحّي إلى إخفاء الأخطاء الطبّية وعدم الإبلاغ عنها، كما سيؤدّي إلى تجنيب الطبيب التعامل مع الحالات المعقّدة ذات المخاطر العالية16.
هذه الأخطاء الطبّية يمكن تفاديها بتغيير النظام الذي يحمي الإنسان من الوقوع في الخطأ من جهة أولى، ووضع الأسس والشروط الواضحة لمسؤولية الطبيب عن أخطائه الطبّية من جهة ثانية، كما أنّ واجب الطبيب هو بذل العناية الواجبة عليه في حدود أصول المهنة، وليس عليه تحقيق غاية أو نتيجة معيّنة، ولا يمكن أن تكون هناك مسؤولية مباشرة للفريق الطبّي لتحقيق نتيجة الشفاء، إذ إنّ ذلك لا يملكه الطبيب ولا غيره، فالطبيب يعالج، والله وحده هو الشافي17.
وعلينا كمجتمع أن نغيّر طريقة نظرتنا إلى الأخطاء الطبّية، وتمييزها عن غيرها من المضاعفات الجانبية الممكنة الحصول، والتحرّي جيّداً عن أسباب وفاة الشخص أو إيذائه قبل إطلاق اتهامات بوجه الطبيب، لا تستند إلى أساس قانوني أو علمي وسليم، فالمتهم بريء حتّى تثبت إدانته، والطبيب الذي يتعرّض لإتهامات باطلة ويُشهّر به إعلامياً يتضرّر بصورة مادية ومعنوية كبيرة، ولا يعود محلّ ثقة من قبل المرضى حتّى ولو تبيّن لاحقاً أنّه بريء ممّا نُسب إليه، فهل يا ترى يستطيع الإعتذار له، أو التعويض عليه أن يصلح ما أفسدته ألسنة البشر وادعاءاتهم الظالمة؟
من هنا كانت أهمّية التحقّق من خطأ الطبيب وإثباته باليقين لا بالشكّ.
واختم بأبيات للشاعر إبن الرومي، الذي قيل إنّ أحد الأطباء كان يتردّد إليه ويعالجه بالأدوية النافعة لتسمّم كان قد أصابه، فزعم أنّه غلط عليه في عقار طبّي، فكانت هذه الأبيات:
غلِط الطبيبُ عليّ غلطة مُوردٍ عجزتْ مَحالتُه عن الإصدارِ
والناس يَلحَوْن الطبيب وإنّما خطأ الطبيب إصابة المقدار.
هوامش:
1- المقدار : القضاء والحكم.
2- استاذة محاضرة في كلية الحقوق والعلوم السياسية والادارية، الجامعة اللبنانية، الفرع الخامس، واستاذة متعاقدة لدى مركز المعلوماتية القانونية.
3- جاء في المادة 3 بند أ من قانون الآداب الطبية رقم 288 تاريخ 22/2/1994، منشور في الجريدة الرسمية، العدد 45 تاريخ 25/10/2012، انه ” على الطبيب، مستلهماً ضميره المهني، أن يعالج أي مريض، سواء كان في زمن الحرب أو السلم ومهما كانت حالة هذا المريض المادية أو الاجتماعية ودون النظر إلى عرقه أو جنسيته أو معتقده أو آرائه السياسية، أو مشاعره أو سمعته”، كما نصت المادة 27 البند 1 من هذا القانون انه”على الطبيب خلال معالجة المريض ان يعامله بانسانية ورفق واستقامة، وان يحيطه بالعناية والاهتمام”.
4- مادة 2 ، والبند 1 من المادة 9 من قانون الآداب الطبية رقم 288/1994.
5- سامي منصور، المسؤولية الطبية وفق قانون 288 تاريخ 22 شباط 1994- قانون الآداب الطبية- مجلة العدل التي تصدرها نقابة المحامين في بيروت، العدد 34، 2000، الجزء الرابع، ص 298 الى 323.وخاصة ص 331- 332.
6- في 17/1/1979 صدر قانون تنظيم ممارسة مهنة الطب في لبنان، الذي اشار في الفصل الخامس منه، المادة 12 الى الحالات التي يمنع فيها ممارسة الطب:
“يمنع من ممارسة الطب في لبنان بقرار من وزير الصحة العامة ، وذلك تحت طائلة الملاحقة :
أ- كل من لا يكون حائزا على إجازة بممارسة مهنة الطب من وزارة الصحة العامة.
ب- كل من حُكم عليه بجناية أو محاولة جناية من أي نوع كانت أو بجنحة شائنة أو بمحاولة جنحة شائنة وتعتبر شائنة الجنح المنصوص عليها في الفقرة 3 من المادة 3 من هذا القانون.
ج- كل من أصيب بالجنون أو العتة أو أدمن على تعاطي المخدرات أو المسكرات شرط اثبات هذه الحالات بحكم قضائي مبرم.
د- كل من يتعمل أدوية ووسائل سرية لا يبوح بها للجنة طبية خاصة يجري تعيينها بقرار من وزير الصحة العامة.
ه- كل من يتعاطى أعمالا تجارية أو صناعية تستدعي ممارسة شخصية مستمرة.
و- كل من شُطب اسمه من جدول نقابة الأطباء التي كان مسجلا فيها حسب القوانين المرعية.
ز- كل من صدر بحقه من المجلس التأديبي لنقابة الأطباء التي ينتمي إليها قرارا” يقضي بمنعه من ممارسة مهنته بصورة نهائية أو بوقفه عن ممارستها لمدة معينة، على أن لا يُنفذ هذا القرار إلا بعد أن يكون قد أصبح مُبرما”.
7- ان هذه النصوص المذكورة لم تحدد ماهية الخطأ العادي او المهني او الطبي وانما اكتفت بعبارات تحتاج الى تعريف :”ضرر غير مشروع، لا يلتزم الطبيب بموجب نتيجة بل بموجب تأمين افضل معالجة مناسبة للمريض، بافضل الطرق” فهذه المصطلحات بذاتها تحتاج الى تعريف.
8- وفي ذلك اجتهاد مستقر : محكمة الإستئناف المختلطة ، تاريخ 22 اذار 1945، اعتبرت فيه المحكمة بان الوفاة اذا نتجت عن عملية جراحية فان ذلك لا يؤدي حتماً الى مسؤولية الطبيب الجراح . فالطبيب حسب قرار محكمة استئناف بيروت المدنية رقم 910 تاريخ 18 ايار 1967 ” يلتزم ازاء مريضه ببذل العناية الطبية له” والمعيار هنا موضوعي . مذكور في عفيف شمس الدين، المصنف في قضايا الموجبات والعقود والمسؤولية، بيروت، 1992، ص 444 رقم 4 ومجموعة حاتم جزء 78، ص 49- 50؛ نفس المحكمة رقم 313 تاريخ 10 اذار 1971 مذكور في عفيف شمس الدين نفس المرجع، ص 448 رقم 8؛ القاضي المنفرد المدني في بيروت رقم 826 تاريخ 29 اذار 1961، مجموعة حاتم الجزء 46، ص 660؛ القاضي المنفرد في شحيم رقم 18 تاريخ 15 كانون الثاني 1959، مجموعة حاتم الجزء 39 ، ص 61. حول مراحل المعالجة الطبية راجع محمد حسين منصور، الخطأ الطبي من خلال العمليات الجراحية، مجلة الدراسات القانونية التي تصدرها كلية الحقوق في جامعية بيروت العربية ، 1999، العدد 1 ، ص 49 الى 90 ؛ وحول تحديد معيار خطأ الطبيب ومفهومه سامي منصور ، الدراسة المشار اليها، ص 321 الى 324.
9- إذا كانت القاعدة هي ان التزام الطبيب هو التزام ببذل عناية، إلا أن هناك حالات استثنائية يلتزم فيها الطبيب بموجب تحقيق نتيجة، ويتحقق ذلك من إرادة طرفي العقد عندما يتعهد الطبيب بتنفيذ العمل الطبي في وقت محدد أو يلزم بتنفيذه شخصيا، أو من طبيعة موضوع الموجب عندما يكون هذا الموضوع محددا تحديدا دقيقا، ولا يحتمل أي صعوبة بالنسبة للطبيب العادي، بل يرتبط بإرادته وليس خارجاً عنها.
وكمثال على ذلك طبيب الأسنان في الحالة التي يقوم فيها بتركيب أسنان صناعية للمريض إذ عليه أن يسعى بأن تكون تلك الأسنان صالحة لأداء وظيفتها التي ركبت من أجلها دون أن تحدث ألماً للمريض. كما يلتزم هذا الطبيب بضمان سلامة المريض من جراء الآلات والتجهيزات التي يستعملها، والتزامه في هاتين الحالتين هو التزام بتحقيق نتيجة. كما أن التزام الجراح التجميلي بالإضافة إلى بذل عناية صادقة وجهود متفقة مع الأصول العلمية الثابتة لتحقيق نتيجة تتمثل هذه النتيجة بتحقيق الوعد الذي التزم به الجراح التجميلي لمريضه كتحسين مظهر أنفه مثلا، أو منظر ساقه أو شد وجهه، او كإلتزامه بعدم افشاء السر الطبي للمرضى….
10- تمييز مدني، رقم 89 تاريخ 5/7/1972؛ وعلى الطبيب عند استماع شهادته ان يدلي بسر المهنة، تمييز مدني، غرفة اولى، رقم 14 تاريخ 3/6/1958 ، نشرة قضائية ، الجزء 8 السنة 14 اب 1958، ص 610 – 614؛ للتوسع حول هذا الموضوع : السرية الطبية في النظام القانوني اللبناني، هانيا فقيه، مجلة صوت الجامعة، تصدر عن الجامعة الاسلامية في لبنان، العدد التاسع لعام 2016.
11- حددت المادة 3 من قانون 17/1 1979 – قانون تنظيم ممارسة مهنة الطبّ – على الشروط والإجازة لهذه الممارسة، راجع المواد 3 وما يليها من هذا القانون.
12- في ذلك سامي منصور، الدراسة المشار إليها، ص 308 وما يليها مع المراجع المذكورة.
13- المسؤولية الطبّية، مداخلة وجيه خاطر في مؤتمر نقابة الأطباء المنعقد في بيروت تاريخ 16 اذار 1977، مجلّة الدراسات القانونية الصادرة عن كلّية الحقوق في جامعة بيروت العربية، عدد كانون الأوّل 1999، ص 49 وما يليها وراجع النشرة القضائية 1997، العدد 11، ص 126 الى 141؛ وحول مسؤولية المستشفى وموجباتها راجع محكمة التمييز المدنية ،رقم 121، تاريخ 16/12/1955 ، مجموعة باز، 1950- 1955، ص 192 الى 193؛ تمييز مدني ، غرفة ثالثة، رقم 12 تاريخ 23 ايار 1967 مجموعة باز ، 1966- 1967؛ تمييز مدني، تاريخ 13/2/1974 ، مجموعة باز،ص 226.
14- http://www.transparencylebanon.org/Modules/PressRoom/OurPublications/UploadFile/8826_29,06,YYCitizens%20Guide_MEAC_FINAL.pdf
15- من المواد الجزائية التي يمكن تطبيقها في حالة ارتكاب الطبيب لخطأ طبّي شكّل جرماً جزائيا نذكر:
في التسبّب بالموت: المادة 564- من تسبّب بموت أحد عن إهمال أو قلّة احتراز أو عدم مراعاة القوانين أو الأنظمة، عوقب بالحبس من ستّة أشهر إلى ثلاث سنوات.
في الإجهاض: المادة 546- إذا ارتكب إحدى الجنح المنصوص عليها في هذا الفصل طبيب أو جرّاح أو قابلة أو إجزائي أو صيدلي أو أحد مستخدميهم فاعلين كانوا أو محرّضين أو متدخّلين شدّدت العقوبة وفاقاً للمادة 257.
ويكون الأمر كذلك إذا كان المجرم قد اعتاد بيع العقاقير وسائر المواد المعدّة للتطريح.
ويستهدف المجرم فضلاً عن ذلك للمنع من مزاولة مهنته أو عمله، وإن لم يكونا منوطين بإذن السلطة أو نيل شهادة.
ويمكن الحكم أيضاً بإقفال المحل.
في القتل قصداً، المادة 547- من قتل إنساناً قصداً، عوقب بالأشغال الشاقة من خمس عشرة سنة إلى عشرين سنة.
16- غسان سكاف، الخطأ الطبي: ما هي معايير محاسبة الطبيب؟، جريدة النهار، 20/6/2014.
17- قال تعآلى : “وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ”، الآية (80)، سورة الشعرآء.

(نشر في مجلّة محكمة – العدد 21 – أيلول 2017).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!