مقالات

شيا في “الخارجية”: قُلِبت صفحة القاضي مازح لا حزب الله/نقولا ناصيف

نقولا ناصيف*:
إدلاء السفيرة الأميركية دورثي شيا، بعد مقابلتها وزير الخارجية ناصيف حتّي، ببيان مكتوب عنى أنّ كلّ ما دار بينهما اتفق عليه سلفاً، فلم يفاجئ أيّ منهما الآخر ولم يسمعه ما لم يُرضِه. تفاهما قبل جلوسهما معاً على كلّ ما يقتضي التصرّف بموجبه في ما بعد.
طوى بيان السفيرة الأميركية في بيروت دورثي شيا صفحة ما حدث أخيراً كي يؤكّد أن ليس ثمّة ما تغيّر، أو سيتغيّر في الموقف الأميركي من حزب الله. أكثر من أيّ وقت مضى، أضحت المواجهة بين الطرفين مباشرة على الأرض اللبنانية، بعدما عوّلت على مواقف سياسية معلنة، ثمّ في مرحلة لاحقة على عقوبات على أشخاص ومؤسّسات، ثمّ انخرطت في النظام المصرفي العالمي فالنظام المصرفي اللبناني. ليس من السهل إقناع السفيرة، ولا إدارتها، أنّ قاضي أمور مستعجلة في صور قادر في يوم عطلة رسمية، من دون العودة إلى مرجعية سياسية في منطقة لها مرجعيتها، اتخاذ قرار يربك الحكومة اللبنانية، ويضعها وجهاً لوجه قبالة سفارة دولة عظمى، وإنْ أفصح القرار عن استهدافه وسائل الإعلام اللبنانية والأجنبية، لا السفيرة بالذات.
ما قالته شيا في مقابلتها مع محطّة “العربية” التي أثارت الضجّة الأخيرة، ونجم عنه قرار القاضي محمّد مازح السبت الفائت، كما ما سبق ما قالته قبل أيّام في أكثر من محطّة تلفزيونية محلّية، لم يختلف عمّا كانت تقوله السفيرة السلف اليزابيث ريتشارد سوى بالنبرة ودينامية الحركة التي رافقت توقيت تصعيد اللهجة. بيد أنّ المضمون نفسه. يصحّ القول إنّ السفيرة التي لم تمضِ أشهر قليلة على مباشرة عملها في لبنان، منذ شباط، لم تقل ما هو أسوأ ممّا قاله سلفها جيفري فيلتمان حينما كان في لبنان (2004 – 2008)، ولا من قبله سلف السلف دافيد ساترفيلد (1998 – 2001). وهما السفيران الموصوفان بالأكثر عدائية وفجاجة في أدائهما، وتغلغلهما في اللعبة السياسية وما بين الأفرقاء اللبنانيين، وإلمامهما بتناقضاتهم، ونبرتهما الحادة حيال حزب الله في مرحلتي ما قبل تحرير الجنوب عام 2000 ثمّ ما بعدها.
لم تختلف السفيرتان اللتان تلتهما ميشال سيسون (2008 – 2010) ثمّ مورا كونيللي (2010 – 2012) عن ريتشارد وشيا، سوى بالنبرة التي جعلت سيسون ضعيفة تخلف سفيراً منفرّاً كفيلتمان، وكونيللي سفيرة صلبة تسبق سفيرة هادئة.
وصف ساترفيلد وهو بعد سفير في بيروت حزب الله بـ”منظّمة إرهابية” عندما كان يخرج من مقابلة رئيس البرلمان نبيه برّي، دونما الأخذ في الاعتبار مغزى هذا الإستفزاز وموقعه، وراح حينذاك يندّد بهجمات المقاومة ضدّ الإحتلال الإسرائيلي.
بدوره فيلتمان لم يتردّد في عزّ الإنقسام بين قوى 8 و14 آذار عام 2005 في التمسك بإجراء الإنتخابات النيابية في التوقيت الذي حدّده هو، وهو الأوّل من حزيران عامذاك، وبقانون الإنتخاب النافذ، بعدما شاع قوله: “الانتخابات الآن”، وطعنه في شرعية الرئيس إميل لحود. صنع التحالفات والائتلافات، وكان المستشار اليومي السرّي لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة في ذلك الوقت، قبل أن يورّطه حلفاؤه أولئك في ما كشفه هو عنهم في مراسلات “ويكيليكس” وبرقياتها.
مع أنّ السفيرة الحالية قلبت ما اعتبرته صفحة الخلاف مع الحكومة اللبنانية بإزاء قرار القاضي مازح، إلاّ أنّ المطلعين على ترددات ردود فعلها يتحدّثون عن بضعة مؤشّرات ماثلة في ذهنها:
أولاها، أنّها لا تبرئ حزب الله من قرار القاضي، مباشرة أو على نحو غير مباشر، في خطوة غير مسبوقة في تاريخه يُقدم عليها القضاء اللبناني. لا توقيت القرار في محلّه، ولا الدافع المفتعل مقنع، ولا الصلاحية توجب مثل هذا التدخّل والاجتهاد، ولا الصمت الرسمي حياله طوال أكثر من 48 ساعة. أضف أنّ الحزب كان أوّل المسارعين من بين حلفائه إلى تأييد القرار القضائي وإطرائه، في وقت أحجمت حكومة الرئيس حسّان دياب عن الإنخراط في الإشتباك، كي تضيف إلى سجّلها مزيداً من الشكوك التي لمّحت إليها السفيرة مراراً، وهو أنّها “حكومة حزب الله”.رغم أنّها أولت الوجه الآخر المعلن لقرار مازح، وهو منع وسائل الإعلام اللبنانية والأجنبية من إجراء أحاديث معها طوال سنة تحت طائلة الملاحقة، إهتمامها على أنّها تدافع عن الحرّيات وأخصّها حرّية الرأي والتعبير، بيد أنّ شيا لم تقلّل من خطورة الوجه المخفي من القرار الذي لم يجرؤ القاضي على التوسّع فيه، وهو منعها هي بالذات من الإدلاء بأحاديث، كما لو أنّه يقيّد تحرّكها ويسجّل بذلك سابقة. لذا أتى كلامها العلني بعد مقابلة وزير الخارجية عن ضرورة الإنصراف إلى معالجة الأزمة الاقتصادية، مكمّلاً لما قيل في السرّ على اثر صدور القرار، وهو أنّ على القضاء الإنصراف إلى مكافحة الفساد والمساعدة على استعادة اللبنانيين حقوقهم المحظورة عليهم.
ثانيها، تلقت السفيرة للفور اتصالاً من مستشار رئيس الجمهورية الوزير السابق سليم جريصاتي ينفي أيّ علاقة للرئيس ميشال عون بما حدث، أو أن تكون الرئاسة اللبنانية أوعزت به. مع أنّه لم يتحدّث إليها سوى بصفته مستشاراً للرئيس، إلاّ أنّ السفارة تعاملت مع مكالمة جريصاتي – من دون أن يكون ذا صلاحية – على أنّها “اعتذار” من الحكومة أكثر منه تبريراً.
ثالثها، ليس ثمّة جديد طرأ على موقف واشنطن من حزب الله، التي لم تغفر ما حدث في نيسان 1983 بتدمير سفارتها في عين المريسة، ثمّ في تشرين الأوّل عامذاك بتدمير مقرّ وحدات المارينز، وتوجيهها الاتهام إلى الحزب. منذ مطلع عقد التسعينات تصاعد التشدّد الأميركي حياله بنعته “منظّمة إرهابية”، في مرحلة علاقات ودّية أتاحت لواشنطن إطلاق يد دمشق في الامساك بلبنان وإدارة نظامه ومحاولة ضبط الحزب عند الحدود الشمالية لإسرائيل.
لم يمرّ على لبنان مذذاك سفير أميركي لم يستخدم الصفة نفسها ضدّ حزب الله قبل الإنتقال في السنوات الأخيرة إلى مرحلة فرض العقوبات الاقتصادية عليه، إلى حدّ راحت تشيع في المدّة الأخيرة أنّ ثمّة حلفاء لحزب الله وثيقي الصلة به في السلطة وخارجه مرشّحون لإدراجهم في عقوبات موسّعة.
مبعث استغراب السفارة أنّ ما أدلت به شيا تلا، بالنبرة نفسها، ما كان قاله مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى دافيد شنكر، ثمّ من بعده وزير الخارجية مايك بومبيو. الإستدراك الوحيد الذي يجعل السفيرة تتيقّن من ضلوع حزب الله في قرار القاضي، أنّ الإضافة المهمّة على ما قاله رئيساها من واشنطن كان تحميلها حزب الله مسؤولية الانهيارين الاقتصادي والمالي في لبنان وتهريب العملات الصعبة إلى سوريا وتعريض اللبنانيين للجوع والفاقة. إضافة كهذا لم تكتف بمضمون “التعليمات” التي تتلقاها من إدارتها حيال تصعيد الموقف من حزب الله، بل يشكّل عنده محاولة تأليب اللبنانيين عليه.
*المصدر: الأخبار
“محكمة” – الثلاثاء في 2020/6/30

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!