أبحاث ودراسات

قانون المياه الجديد: تطوّر تشريعي “ثوري” و”انقلاب” في المفاهيم والأصول الجزائية/جاسم شاهين

جاسم محمّد شاهين*:
من الثابت أنّ إقرار مشروع قانون المياه بصيغته الأولى (القانون رقم 2018/77 تاريخ 2018/04/13) التي باشرت وزارة الطاقة والمياه العمل عليه في العام 2010 كان مدفوعاً بمقتضيات الاستجابة لمتطلّبات “المؤتمر الدولي لدعم التنمية والإصلاحات في لبنان” أيّ مؤتمر CÈDRE.
فبعد 15 يومًا فقط من إطلاق العمل عليه في اللجان النيابية المشتركة وقبل أسبوع واحد من موعد المؤتمر المذكور صدر القانون من دون أن يقوم المجلس النيابي بإجراء أيّ تعديل على الصيغة الأساسية المرسلة من الحكومة.
فمن خلال الإطلاع على ما ورد في الأسباب الموجبة للقانون رقم 2020/192 الصادر في 2020/10/16 والرامي إلى تعديل القانون رقم 2018/77، يمكن الوصول إلى خلاصة مفادها قصور القانون الأخير عن تحقيق الغاية التي سعى المشرّع إلى تحقيقها من وراء إقراره. “وحيث إنّ قانون المياه بالصيغة التي صدر بها تشوبه الكثير من الثغرات التي تجعل إمكانية تطبيقه شبه مستحيلة”، من شأن هذه الجملة الواردة في الأسباب الموجبة للقانون رقم 2020/192 أن تختصر كامل الفترة الزمنية الممتدة بين تاريخ إصدار قانون المياه القديم ودخوله حيّز التنفيذ وبين صدور القانون الجديد الرامي إلى تعديله.
بالتالي، وأمام عدم قابلية القانون القديم للتطبيق، كان لا بدّ من إدخال تعديلات تجعل من قانون المياه آداة فعالة لحماية الثروة المائية في لبنان وليس مجرد تدبير شكلي فرضته الحاجة من أجل الحصول على تمويل خارجي.
بالفعل، وبعد شهرين فقط من دخول القانون بصيغته الأولى حيّز التنفيذ تداعى عدد من النوّاب إلى تقديم اقتراح قانون معجّل مكرّر يرمي إلى تعديل قانون المياه رقم /77/ تاريخ 2018/04/13. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّه وبحسب أمين سرّ لجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه النيابية الأستاذ أكرم حسن فإنّ تقديم اقتراح القانون هذا كان نتيجة وجود إتفاق مسبق في المجلس النيابي يقضي بوجوب تعديل الصيغة الأولى من قانون المياه التي تمّ إقرارها على عجل قبل موعد انعقاد مؤتمر CÈDRE المخصّص لدعم لبنان.
اليوم وبعد مرور حوالي سنتين من صولات وجولات قادها أهل الاختصاص([1])في جلسات اللجنة الفرعية التي عقدت نحو /16/ جلسة إمتدت على فترة زمنية تجاوزت السنة برئاسة النائب الدكتور محمّد الحجّار الذي أصّر في بداية النقاش على إرساء أسس أكاديمية ومنهجية علمية واضحة لمقاربة مختلف أجزاء القانون بعيدًا عن أيّ تجاذبات سياسية، الأمر الذي أفضى في نهاية المطاف إلى إقرار إصلاحات جذرية في هذا القانون، وفي جلسات اللجان المشتركة أقرّ مجلس النوّاب اللبناني في جلسته المنعقدة في 30 أيلول 2020 إقتراح القانون هذا الذي شكّل كما يشير عرّابوه نقطة فاصلة بين نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة في مجال حماية الموارد المائية في لبنان. فمن غير المقبول أن يكون ما بعد 16 تشرين الأوّل 2020 (أي تاريخ إصدار القانون بصيغته الجديدة) مشابهًا لمّا قبل هذا التاريخ في مجال مكافحة الإعتداءات على الثروة المائية في لبنان.
إستند أهل الاختصاص من أجل الوصول إلى خلاصتهم هذه إلى مجموعة من التعديلات التي أقرّها القانون الجديد على صعيد الأحكام الجزائية المتعلّقة بمكافحة جرائم الاعتداء على الثروة المائية، بحيث إنّه من الجائز القول إنّ القانون قام وللمرّة الأولى في لبنان ببناء منظومة تشريعية جزائية متكاملة على صعيد مكافحة التعدّي على الثروة المائية. تبدأ بالتحقّق من الجرائم المرتكبة في هذا المجال، مرورًا بإحالة هذه الجرائم أمام المحكمة المختصة، وصولًا إلى إقرار مجموعة من التدابير والعقوبات التي تستطيع المحكمة إتخاذها لردع المعتدين، مع إحاطة كلّ ذلك بمجموعة من الضمانات التي من شأنها أن تساعد في تحقيق المكافحة الفعّالة في أسرع وقت ممكن.
فمن النافل القول إنّ الثروة المائية في لبنان هي بشكل عام في حالة يرثى لها، ولن نتطرّق هنا إلى واقع هذه الثروة، بحيث إنّ الدراسات والمقالات التي تناولت هذا الواقع الكارثي لا تعدّ ولا تحصى.
إنطلاقًا من كلّ ذلك ونظرًا لأهمّية هذه الثروة الوطنية التي تتعرّض مصادرها المتعدّدة في بلد كلبنان إلى التلوّث من مجموعة واسعة من القطاعات وما يستتبعه ذلك من اعتداء خطير على القيم الإجتماعية والمعنوية وعلى مصلحة الأجيال المستقبلية للعيش في بيئة سليمة، الأمر الذي يُهدّد صحّة الإنسان وكذلك الحياة البريّة بأكملها. سنقوم في ما يلي بتسليط الضوء على الأحكام الجزائية التي أقّرها القانون رقم 2020/192 الرامي إلى تعديل القانون رقم /77/ تاريخ 2018/04/13 (قانون المياه).
1- تفعيل دور موظّفي وزارة الطاقة والمياه والمؤسّسات العامة الاستثمارية للمياه.
لم تكن الجرائم البيئية بشكل عام وجرائم التعدّي على الثروة المائية بشكل خاص تستحوذ على اهتمام الرأي العام الجاهل في أغلبه في قضايا البيئة وتاليًا على اهتمام الأشخاص المولجين التحقّق من الجرائم وكشفها الذين بدورهم تنقصهم الخبرات والتدريب في هذا المجال([2]). فبخلاف الجرائم الأخرى، كالقتل والسرقة على سبيل المثال لا الحصر، التي من شأنها أن تستثير الرأي العام تبقى الجرائم المتعلّقة بالاعتداء على البيئة في الظلّ وفي حال اكتشفت فلا يكون ذلك إلاّ بعد فوات الأوان، وفي جميع الأحوال يتفلّت مرتكبوها من العقاب.
كان لا بدّ بالتالي من اعتماد منهجية جديدة في ما يتعلّق بالتحقّق من جرائم الإعتداء على الثروة المائية وكشفها، وأفضل ما كان يمكن تحقيقه في هذا الإطار هو استحداث دور لموظّفي الإدارات والمؤسّسات العامة المعنية بالمحافظة على الثروة المائية وفي مقدّمتهم المصلحة الوطنية لنهر الليطاني من خلال ادخالهم كشريك أساسي في مجال مكافحة الجرائم البيئية وبالتحديد في مجال التحقّق من هذه الجرائم وكشفها.
بالفعل، تمّ للمرّة الأولى بموجب القانون رقم 2020/192 وبناء على اقتراح القاضي جاد الهاشم إيلاء هؤلاء وبالتحديد موظّفي وزارة الطاقة والمياه والمؤسّسات العامة الاستثمارية للمياه كلٌ ضمن نطاقها، صلاحيات الضابطة العدلية في ما يتعلّق بضبط الجرائم الناشئة عن تطبيق هذا القانون. تمكينًا لهم من ممارسة صلاحيتهم بفعالية منحهم القانون عند الحاجة حقّ الاستعانة ضمن الأصول بالقوى الأمنية وذلك تحت إشراف النيابة العامة المختصة، كما حدّد القانون مجموعة من التدابير التي يمكن لهؤلاء القيام بها والتي تصب جميعها في خانة واحدة وهي كشف الجرائم، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ هذه التدابير سبق وأن نصّ عليها القانون رقم 2018/77 وهي التالية:
1- الدخول إلى محيط وأبنية التجهيزات والمنشآت والاستثمارات والمؤسّسات المشكوك فيها.
2- الكشف على كلّ التجهيزات أو المنشآت والآلات والمستودعات.
3- الحصول على كلّ الوثائق والمعلومات المتعلّقة بالتجهيزات والنشاطات ذات الصلة.
4- أخذ العيّنات واتخاذ التدابير الحمائية الضرورية.
لم يكتف المشرع في القانون رقم 2020/192 بإعادة النصّ على التدابير السابق ذكرها، بل ذهب أبعد من ذلك مانحًا موظّفي وزارة الطاقة والمياه والمؤسّسات العامة الاستثمارية للمياه صلاحيات الضابطة العدلية، فبعدما كان دورهم يقتصر في النسخة الأولى من القانون على تنظيم محاضر المخالفات المرتكبة لأحكام هذا القانون والقيام بالتدابير السابق ذكرها، جاء القانون رقم 2020/192 ليوسّع من صلاحيات هؤلاء من خلال منحهم كافة صلاحيات الضابطة العدلية المحددة قانوناً.
وهنا يصح القول إنّ المشرّع ومن خلال منحه هؤلاء الموظّفين هذه الصلاحيات يكون بالتالي قد أقدم ولو بشكل غير مباشر على إنشاء وحدة مستقلّة ومتخصّصة في مكافحة الجرائم المتعلّقة بالاعتداء على الثروة المائية في لبنان، أعضاؤها من الإختصاصيين في مجال الحفاظ على الثروة المائية ومهمّتها الوحيدة التحقّق من الجرائم الناشئة عن مخالفة أحكام قانون المياه. الأمر الذي يتناسب مع الطبيعة الخاصة التي تتصف بها هذه الجرائم والتي تميّزها عن غيرها من الجرائم، والتي تجعل من مكافحتها مهمّة فائقة الصعوبة في حال لم يتمّ إيلاء هذه المهمّة لمختصين في هذا المجال. فمن المعلوم أنّ الضابطة العدلية في لبنان تفتقر في الغالب إلى الحدّ الأدنى من الخبرات الضرورية التي تطلبها عملية مكافحة جرائم الإعتداء على البيئة بشكل عام وعلى الثروة المائية بشكل خاص، فليس هناك مجال آخر من مجالات الإجرام تفتقر فيه الضابطة العدلية للخبرة والتدريب بقدر ما تفتقر إليه في الاجرام البيئي.
أمّا بالنسبة لصلاحيات الضابطة العدلية التي تمّ منحها للأشخاص السابق ذكرهم، فهي التي جرى تحديدها في القسم الثاني من قانون أصول المحاكمات الجزائية، وهو القانون رقم /328/ الصادر في 2001/08/02، وتحديدًا من المادة /40/ لغاية المادة /50/ منه. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الصلاحيات التي تختلف حسبما تكون الجريمة المرتكبة جناية أو جنحة، مشهودة أم غير مشهودة، تصبّ جميعها في خانة واحدة ألا وهي استقصاء الجرائم من خلال جمع الأدلّة وتعقّب الفاعل.
أدرك المشرّع أنّ الخطوة الأولى في طريق تحقيق أكبر قدر ممكن من الفعالية في إطار مكافحة الجرائم الناشئة عن مخالفة أحكام قانون المياه تكمن في إيلاء أفراد متخصّصين هذه المسؤولية، الأمر الذي تمّت ترجمته على أرض الواقع من خلال توسيع صلاحيات موظّفي وزارة الطاقة والمياه والمؤسّسات العامة الاستثمارية للمياه (ومنها المصلحة الوطنية لنهر الليطاني) عمّا كانت عليه في القانون رقم 2018/77 ومنحهم، وهم المعنيون أساسًا بالمحافظة على الثروة المائية، الصلاحيات التي خصّ بها القانون أفراد الضابطة العدلية. فبطبيعة الحال فإنّ أيّ مكافحة فعّالة لهذا النوع من الجرائم تتطلّب بادئ ذي بدء العمل على اتخاذ الخطوات الضرورية التي تساهم في كشف هذه الجرائم. لكنّ الأمور لا تتوقّف عند هذا الحدّ، بحيث إنّه لا بدّ بعد اكتشاف الجريمة من إحالتها أمام الجهات المختصة من أجل تحريك الدعوى العامة فيها وملاحقة الجناة، الأمر الذي أحاطه المشرّع بضمانات لم يكن يتضمّنها القانون في النسخة الأولى منه أيّ تلك الصادرة في العام 2018.
2- إلغاء الحصرية الممنوحة للنيابة العامة البيئية في تحريك الدعوى العامة في الجرائم الناشئة عن مخالفة قانون المياه.
في قانون المياه بنسخته الأولى كانت النيابة العامة وبالتحديد النيابة العامة البيئية هي الجهة الوحيدة المختصة بتلقي محاضر مخالفات أحكام قانون المياه المحرّرة من قبل رجال الضابطة العدلية أو موظّفي وزارة الطاقة والمياه أو المستخدمين المحلّفين والمكلّفين رسميًا بذلك من قبل المؤسّسات الاستثمارية العامة للمياه، ومن ثمّ الجهة الوحيدة المخوّلة تحريك الدعوى العامة في الجرائم الناشئة عن مخالفة أحكام القانون، الأمر الذي كان يشكّل بحدّ ذاته عائقًا يقف في وجه أيّ مكافحة فعّالة لهذه الجرائم كما سنبيّن في ما بعد.
أمّا اليوم ومع صدور النسخة الثانية المعدّلة من قانون المياه فلم تعد النيابة العامة البيئية الجهة الحصرية المولج إليها إستلام محاضر الجرائم المحرّرة وتحريك الدعوى العامة بعد ذلك، بحيث إنّ ممثّل وزارة العدل القاضي جاد الهاشم إقترح أن يتمّ إرسال هذه المحاضر مباشرة إلى القاضي المنفرد الجزائي المختص الذي يضع يده على الدعوى العامة بموجبها للحكم وفق الأصول العادية وبالتلازم مع تدابير جزائية معجّلة التنفيذ، كلّ ذلك مع الحفاظ على الصلاحيات الممنوحة للنيابة العامة في هذا المجال، وهذا بالتحديد ما تبنّاه المشرّع في القانون رقم 2020/192. فكلّ ما في الأمر أنّ هذا القانون ألغى الحصرية التي كانت ممنوحة إلى النيابة العامة بموجب القانون رقم 2018/77 في ما يتعلّق باستلام محاضر الجرائم الناشئة عن مخالفة أحكام هذا القانون وتحريك الدعوى العامة فيها، الأمر الذي كما سبق ذكره كان يشكّل عائقًا يحول دون أيّ مكافحة فعّالة لهذه الجرائم وذلك تبعًا للأمور التالي ذكرها.
من جهة أولى، فعند إرسال محاضر المخالفات المرتكبة إلى النيابة العامة تقوم هذه الأخيرة بالإدعاء بالقضيّة ومن ثمّ إحالتها أمام المحكمة المختصة أي القاضي المنفرد الجزائي من أجل البتّ بها، وهذه العملية بحدّ ذاتها تستلزم من أجل إتمامها وقتًا ليس بالقصير لاسيّما في ظلّ الروتين الإداري القائم في لبنان. بحيث إنّ إرسال المحاضر إلى النيابة ومن ثمّ قيام الأخيرة بالإدعاء وإحالة القضيّة أمام المحكمة مع كلّ ما يستلزمه ذلك من إجراءات إدارية يتوجّب القيام بها من شأنه أن يستغرق الكثير من الوقت في بلد كلبنان، الأمر الذي يؤدّي بدوره إلى تقويض ركن أساسي من أركان المكافحة الفعّالة للجرائم الناشئة عن مخالفة قانون المياه ألا وهو السرعة في إتمام الإجراءات واتخاذ التدابير المناسبة من أجل وضع حدّ للأضرار الناجمة عن الجرائم المرتكبة في أقرب وقت ممكن. فمن الثابت أنّ السرعة في إتمام الإجراءات المتعلّقة بمكافحة هذه الجرائم هي جزء أساسي في أيّ عملية مكافحة فعّالة لها بحيث إنّ الجرائم المتعلّقة بالبيئة بشكل عام والجرائم المتعلّقة بالثروة المائية بشكل خاص هي من الجرائم التي تتزايد أضرارها يومًا بعد يوم، فالأضرار الناجمة عنها تمتد وتتزايد من تاريخ ارتكابها، ممّا يوجب اعتماد أسرع الإجراءات في سبيل وقف هذه الجرائم وإزالة الأضرار الناجمة عنها.
من جهة ثانية، فإنّ حصر استلام محاضر المخالفات وتحريك الدعوى العامة بالنيابة العامة كان من شأنه تقويض عملية مكافحة الجرائم الناشئة عن مخالفة أحكام قانون المياه إلى حدّ كبير. ففي لبنان تطرح العديد من علامات الإستفهام حول مدى استقلالية النيابة العامة، فدائمًا ما يتمّ توجيه الإتهام إلى قضاة النيابات العامة بأنّهم مسيّسون وبأنّ النيابات العامة هي جزء أساسي من النظام السياسي القائم في لبنان، الأمر الذي يجعل من هذه النيابات أرضية خصبة لكافة أنواع التدخّلات في عملها، ممّا يضعف إلى حدّ التقويض أيّ إمكانية لتحريك الحقّ العام وتاليًا أيّ إمكانية لمكافحة هذه الجرائم. ومن المعلوم في هذا الإطار، أنّ النيابة العامة تتمتّع في ظلّ النظام القانوني السائد في لبنان بكامل الحرّية في تحريك أو عدم تحريك الدعوى العامة وذلك تبعًا لاستنسابيتها المطلقة. وتتنامى المخاوف المتعلّقة بالإحجام عن تحريك الدعوى العامة في الجرائم الناشئة عن مخالفة أحكام قانون المياه عندما ندرك أنّ أغلب المعتدين على الثروة المائية في لبنان هم من أصحاب النفوذ الذين تربطهم شبكة علاقات متماسكة مع أهل السلطة وممن يتمتّعون بحماية سياسية لا يتردّدون في استخدامها في كلّ مرّة يستشعرون فيها بخطر تحريك ملفّات قضائية بحقّهم.
هدف المشرّع من خلال إلغائه الحصرية التي كانت ممنوحة للنيابة العامة البيئية في مجال استلام محاضر الجرائم الناشئة عن مخالفة أحكام قانون المياه وتحريك الدعوى العامة فيها إلى تحقيق حسن سير انتظام الأصول الإجرائية الحمائية للنظام البيئي والمائي.
سرّع المشّرع، من جهة أولى، عملية المكافحة من خلال فتح المجال أمام إحالة محضر المخالفة مباشرة إلى القاضي المنفرد الجزائي من دون المرور بالنيابة العامة مع ما يستتبعه ذلك من اختصار للإجراءات الإدارية وكسب للوقت (لاسيمّا وأنّ المشرّع خوّل المحكمة أن تتخذّ عند وصول الملفّ إليها وقبل إصدارها الحكم واحدًا أو أكثر من التدابير التي سنتناولها في ما بعد والتي تساهم بشكل كبير في وقف الضرر في مراحل متقدّمة من الدعوى ومن دون إنتظار صدور الحكم النهائي)، فكما سبق ذكره، فإنّ كلّ دقيقة تأخير إضافية في كشف المخالفة وإزالتها من شأنها أن تفاقم الأضرار الناجمة عن الجريمة.
من جهة ثانية، قطع المشرّع الطريق أمام أيّ محاولات لعرقلة سير العدالة من خلال التدخّل في عمل النيابة العامة وثنيها عن تحريك دعوى الحقّ العام، فمع دخول القانون رقم 2020/192 حيّز التنفيذ، تتحرّك هذه الدعوى فور وضع القاضي المنفرد الجزائي يده على ملفّ الجريمة المحال إليه وذلك بمعزل عن أيّ موقف للنيابة العامة في هذا الإطار.
فتحريك الدعوى العامة في الجرائم الناشئة عن مخالفة أحكام قانون المياه أصبح منذ صدور القانون رقم 2020/192 يتمّ بمجرّد وصول محاضر المخالفات أمام القاضي المنفرد الجزائي من دون الحاجة إلى صدور ادعاء عن النيابة العامة المختصة، ومن دون الحاجة أيضًا إلى صدور ادعاء شخصي من قبل هيئة القضايا في وزارة العدل (ممثّلة الدولة أمام السلطة القضائية من خلال المدافعة عنها ورفع الدعاوى باسمها) التي يبقى لها حقّ تقديم دعوى مباشرة، كما حقّ المطالبة بالحقوق الشخصية أمام المحكمة الجزائية بعد تحريك الدعوى العامة.
يقتضي التذكير هنا بأنّه يبقى للمتضرّر الشخصي أيضًا الحقّ بتحريك الدعوى العامة أمام القاضي المنفرد الجزائي وذلك وفقًا لما هو منصوص عليه في المادتين /7/ و/155/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
لكن المشرّع لم يكتف بذلك، بل منح المحكمة الجزائية الوسائل الضرورية التي من شأنها أن تمكّنها من مكافحة الجرائم المرتكبة بفعالية أكبر.
3- حقّ المحكمة الجزائية باتخاذ تدابير مستعجلة بمجرّد وضع يدها على الدعوى العامة.
تتنامى أهمّية التدبير الذي قرّره المشرّع بموجب القانون رقم 2020/192 والمتعلّق بفتح باب الولوج المباشر إلى القاضي المنفرد الجزائي في الجرائم الناشئة عن تطبيق أحكام قانون المياه عندما يتبيّن أنّ المادة /103/([3])من القانون رقم 2018/77 ومن ثمّ المادة /95/([4])من القانون رقم 2020/192 (التي حلّت مكان المادة /103/) قد منحتا هذا الأخير ومحكمة استئناف الجنح صلاحية اتخاذ مروحة واسعة من التدابير المستعجلة والمؤقّتة التي تصبّ جميعها في خانة واحدة وهي منع تفاقم الأضرار الناجمة عن الجريمة المرتكبة ومحاولة إعادة الحال إلى ما كانت عليه.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ منح المحكمة الجزائية صلاحية اتخاذ مثل هذه التدابير بناء على اقتراح صادر عن القاضي جاد الهاشم شكّل سابقة قانونية لا مثيل لها في النظام القانوني اللبناني، لا بل لا مثيل لها في الأنظمة القانونية المقارنة. فالسائد أنّ صلاحية اتخاذ تدابير مستعجلة ممنوحة بوجه خاص لقاضي الأمور المستعجلة في القضايا المدنية والتجارية فقط وضمن شروط معيّنة تتمثّل بوجود عجلة ومن دون المساس بأصل الحقّ. أمّا اليوم وبموجب قانون المياه فلم يعد اتخاذ مثل هذه التدابير حكرًا لا على قاضي الأمور المستعجلة ولا مقتصرًا على الأمور المدنية والتجارية، فللمرّة الأولى تمّ إعطاء المحكمة الجزائية وتحديدًا القاضي المنفرد الجزائي ومحكمة استئناف الجنح صلاحيات إستثنائية في مواجهة مشكلة إستثنائية ومزمنة يعاني منها لبنان. بحيث إنّ انتظار صدور الأحكام في الدرجة الأولى ومن ثمّ انتظار البتّ بها في الدرجة الثانية من دون توفر أيّ إمكانية لاتخاذ ما من شأنه إيقاف تفاقم الأضرار طوال هذه المدّة كان من شأنه أن يؤدّي إلى دفن أيّ عملية مكافحة فعّالة للجرائم حتّى قبل البدء بها.
لكن وبمّا أنّ هذه التدابير سبق وأن نصّ عليها القانون رقم 2018/77 فما الجديد الذي تضمّنه القانون رقم 2020/192 والذي من شأنه تفعيل عملية المكافحة؟
1- في السابق كان القاضي المنفرد الجزائي ملزمًا بانتظار وصول الملفّ إليه من النيابة العامة مرفقًا بادعائها ومن ثمّ صدور الحكم البدائي عنه لكي يتمكّن من اتخاذ واحد أو أكثر من التدابير، بحيث إنّ تقرير مثل هذه التدابير كان يتمّ حصرًا في متن الحكم البدائي الصادر ولا يمكن اتخاذ أيّ منها قبل ذلك، وعندها سيكون قد مرّ على اكتشاف الجرم فترة من الزمن ليست بالقصيرة، الأمر الذي كان من شأنه أن يخفّف من فعالية التدابير المقرّرة، فكما سبق ذكره كلّما تأخّرنا في اتخاذ التدابير تفاقمت الأضرار الناجمة عن الجريمة وربّما لوصل الأمر إلى حدّ عدم إمكانية إزالة الضرر وإعادة الحال إلى ما كانت عليه. وعندها تصبح التدابير المتخذة عديمة الجدوى. أمّا اليوم فلم يعد القاضي ملزمًا بانتظار إحالة الملفّ إليه تبعًا لادعاء النيابة العامة لكي يقرّر التدابير الجزائية الملائمة، بل أصبح بإمكانه القيام بذلك بمجرّد إحالة الملفّ إليه مباشرة ووضع يده على الدعوى على ما سلف ذكره أو تبعًا لادعاء صادر عن المتضرّر الشخصي، وذلك بغضّ النظر عن أمد المحاكمة، الأمر الذي من شأنه تحقيق الغاية التي هدف المشرع إليها من وراء نصّه على هذه التدابير.
2- في النسخة الأولى من القانون كان من الواضح أنّ التعداد الوارد في المادة /103/ منه هو على سبيل الحصر وليس على سبيل المثال، بحيث إنّ المحكمة لا يمكن أن تتجاوز في قرارها مضمون هذه المادة. لكن وبخلاف المادة /103/ فقد تضمّنت المادة /95/ من القانون رقم 2020/192 ما يصحّ معه القول إنّ المحكمة لم تعد ملزمة بالتدابير المنصوص عليها فقط، بل يمكن أن تقرّر اتخاذ أيّ تدبير يساهم من وجهة نظرها في إزالة الضرر وإعادة الحال إلى ما كانت عليه حتّى ولو لم يكن منصوصًا عليه في متن القانون. هذا ما نستشفّه تحديدًا من نصّ الفقرة /5/ من المادة المذكورة والتي جاء فيها:”إتخاذ التدابير كافة الرامية إلى إزالة الضرر ومنع تفاقمه” ممّا يعني أنّه تمّ توسيع مروحة التدابير التي يمكن للمحكمة الجزائية إتخاذها في مواجهة الجرائم الناشئة عن مخالفة قانون المياه إلى حدّها الأقصى، والمعيار الوحيد الذي أوجب المشرّع على المحكمة التأكّد منه قبل اتخاذ مثل هذه التدابير هو التحقّق من “أنّ الضرر الناتج عن الأفعال والجرائم المرتكبة يؤدّي إلى الإضرار بصحّة الإنسان أو النظم البيئية المائية أو الإضرار بالمياه كمًا أو نوعًا. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ اشتراط هذا الأمر هو لزوم ما لا يلزم بحيث إنّه من الطبيعي أن تؤدّي هذه الجرائم إلى إلحاق أفدح الأضرار سواء بصحّة الإنسان أو بالنظم البيئية المائية أو بالمياه أو حتّى بكافة هذه المصالح في الوقت عينه.
3- في حين كانت المادة /103/ تحصر في فقرتها الثالثة حقّ المحكمة بإزالة التجهيزات أو المنشآت المخالفة، جاءت المادة /95/ لتجيز للمحكمة أيضًا حقّ مصادرة هذه التجهيزات أو المنشآت وليس فقط إزالتها، الأمر الذي من شأنه توجيه ضربة قاسية للمخالفين ستشكّل ممّا لا شكّ فيه رادعًا لهم. كما أنّ الفقرة الرابعة من المادة /103/ كانت تخيّر المحكمة بين إعادة تأهيل إمّا الوسط المائي أو النظام البيئي، لكنّ هذه المشكلة تمّ معالجتها في القانون الحالي من خلال استبدال عبارة “أو” بعبارة “و/أو” ممّا يسمح للمحكمة بفرض التدبيرين معًا إذا رأت ذلك مناسبًا.
في مقابل تفعيل صلاحية المحكمة الجزائية في اتخاذ تدابير مستعجلة، ثار التساؤل حول إمكانية استئناف قرار القاضي المنفرد الجزائي الذي تمّ بموجبه اتخاذ واحد أو أكثر من التدابير المحدّدة سابقًا قبل صدور الحكم البدائي لاسيّما وأنّ المشرّع لم يتناول هذا الموضوع لا من قريب ولا من بعيد في قانون المياه.
4- عدم جواز استئناف التدابير المستعجلة المتخذة من قبل القاضي المنفرد الجزائي على حدة.
من أجل تحديد مدى جواز استئناف التدابير الجزائية المستعجلة التي أقرّها المشرّع في القانون رقم 2020/192 على حدة كان لا بدّ من الرجوع إلى المبادئ العامة التي ترعى هذا الموضوع والمقصود هنا ما نصّ عليه قانون أصول المحاكمات الجزائية في المادة /213/ منه التي حدّدت المبدأ العام والإستثناء عليه في ما يتعلّق بقابلية القرارات غير الفاصلة في أساس النزاع للإستئناف على حدة قبل صدور الحكم النهائي. فالمبدأ هو عدم جواز استئناف هذه القرارات ويستثنى من ذلك القرارات التي تبتّ في دفع أو أكثر من الدفوع المنصوص عليها في المادة /73/ من قانون أصول المحاكمات الجزائية وقرارات إخلاء السبيل والقرارات التي ينهي بها القاضي المنفرد الدعوى دون التعرّض للأساس.
إنطلاقًا ممّا أشارت إليه المادة /213/ السابقة الذكر وبمّا أنّ القرار القاضي باتخاذ واحد أو أكثر من التدابير المنصوص عليها في قانون المياه ليس من ضمن فئات القرارات القابلة للإستئناف قبل صدور الحكم النهائي، فينبغي التقيّد بالمبدأ العام المعمول به والقول بعدم جواز استئناف هذا القرار على حدة قبل صدور الحكم النهائي، الأمر الذي يساهم بدوره في توفير حماية أكبر للموارد المائية. فالتدابير التي يمكن اتخاذها بمجرّد وصول الملفّ إلى القاضي المنفرد الجزائي والتي تصبّ جميعها في خانة إزالة الضرر وإعادة الحال إلى ما كانت عليه ستنفّذ فور اتخاذها وعلى الأقلّ حتّى قيام محكمة إستئناف الجنح باتخاذ القرار بوقف تنفيذ الحكم المستأنف مع التدابير المتخذة وذلك ضمن شروط وقف التنفيذ الذي سنفصّلها في ما يلي([5])،الأمر الذي يساعد على التخفيف من وطأة الأضرار اللاحقة بالثروة المائية.
لم يكتف المشرّع بتفعيل الإجراءات السابقة للحكم الجزائي، بل طالت التعديلات هذا الحكم أيضًا من خلال العمل على ضمان تنفيذه وبأسرع وقت ممكن.
5- إقرار مبدأ التنفيذ المعجل للحكم الجزائي.
الأهمّ من كلّ ذلك أنّ المشرّع وأمام إصرار القاضي الهاشم أقرّ في القانون رقم 2020/192 مبدأ لم يكن مقرّرًا في القانون رقم 2018/77 ألا وهو التنفيذ المعجّل للحكم البدائي الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي وذلك في المادة /96/ منه. فهو من جهة أولى أشار صراحة إلى أنّ استئناف هذا الحكم لا يوقف تنفيذه إلاّ في حال قرّرت محكمة الإستئناف خلاف ذلك، ولكن مع تقييد حقّ المحكمة الأخيرة في هذه الحالة بشرطين، الشرط الأوّل يتمثّل بتحديد فترة زمنية يحقّ لمحكمة استئناف الجنح خلالها فقط تقرير وقف التنفيذ الحكم المستأنف، بحيث يفرض عليها اتخاذ هذا القرار خلال مهلة عشرة أيّام من تاريخ الاستئناف، وعند مرور هذه المدّة من دون اتخاذ مثل هذا القرار فلا يعود من الممكن تقرير وقف التنفيذ.
أمّا الشرط الثاني فيتمثّل بوجوب تعليل محكمة الإستئناف قرارها القاضي بوقف تنفيذ الحكم البدائي تعليلًا وافيًا تبيّن فيه الأسباب الواقعية والقانونية التي اعتمدتها لإصدار قرارها هذا.
بعبارة أخرى، لا يجوز لمحكمة استئناف الجنح أن تقرّر وقف تنفيذ الحكم المستأنف إلاّ في حال أثبتت وقائع مناقضة لتلك التي صدر على أساسها حكم القاضي المنفرد الجزائي القاضي بالعقوبة أو بالتدبير أو في حال إثبات حصول تطبيق خاطئ للقانون. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّها المرّة الأولى التي يتمّ فيها فرض موجب تعليل كهذا في حال رأت المحكمة المختصة وجوب وقف تنفيذ القرار المعجّل الذي تمّ الطعن به. فأمام القضاء العدلي لم يفرض على محكمة الإستئناف أيّ موجب تعليل خاص في حال أرادت تقرير وقف التنفيذ المعجّل، بل كلّ ما في الأمر أنّ وقف التنفيذ يكون جائزًا بمجرّد أن يكون من الواضح أنّ النتائج التي ستترتّب على التنفيذ تتجاوز الحدود المعقولة بالنظر إلى ظروف القضيّة، أو بمجرّد أن تكون أسباب الطعن في الحكم يرجّح معها فسخه ([6])، دون أيّ استفاضة بالشرح من قبلها والوضع نفسه يتوفّر أمام مجلس شورى الدولة ([7]). وهي شروط تخضع لاستنسابية المحكمة المطلقة، ومن السهل توافرها مقارنة بالحالات المتعلّقة بتشويه الوقائع أو بالخطأ في تطبيق القانون، الأمر الذي كان يؤدّي في أغلب الأحيان إلى تعطيل مفعول القرارات المعجّلة التنفيذ الصادرة بالدرجة الأولى لاسيّما تلك الصادرة عن قاضي الأمور المستعجلة من خلال إصدار قرارات بوقف تنفيذها عن محاكم الإستئناف، لكن المشرّع نجح في قانون المياه الجديد في تلافي هذه المشكلة من خلال وضع ضوابط على حقّ المحكمة الأعلى درجة وهي في الحالة الراهنة محكمة استئناف الجنح بتقرير وقف تنفيذ الحكم المعجّل التنفيذ.
ومن جهة ثانية أشار المشرّع إلى وجوب تنفيذ الحكم البدائي قبل انقضاء مهلة الإستئناف.
مرّة جديدة يقوم المشرّع وبخطوة لافتة تعبّر عن نيّة مكافحة الجرائم الناشئة عن مخالفة قانون المياه بجدّية بإدخال مبادئ “ثورية” لم تلحظها القوانين الجزائية في السابق سواء في لبنان أو في القانون المقارن، فبعد منح المحكمة الجزائية صلاحيات كانت تمنح بوجه خاص لمصلحة قاضي الأمور المستعجلة، جاء الدور لإعطاء الحكم الجزائي الصادر في المسائل الناشئة عن مخالفة أحكام قانون المياه ضمانات متعلّقة بتنفيذه تفوق الضمانات التي تعطى للأحكام والقرارات الصادرة في مسائل أخرى سواء عن المحاكم الجزائية أو عن أيّ محكمة أخرى. أوّلًا، من خلال جعل الحكم البدائي الصادر عن المحكمة الجزائية في هذه المسائل معجّل التنفيذ بقوّة القانون. ثانيًا، من خلال وضع قيود على حقّ المحكمة الأعلى درجة بوقف تنفيذ الحكم المعجّل التنفيذ في هذه الحالة وهي قيود لا تتوافر لا أمام القضاء العدلي ولا أمام القضاء الإداري. الأمر الذي يمكن معه القول إنّ فعالية وإمكانية تنفيذ الحكم الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في كلّ ما ينجم عن مخالفة قانون المياه باتت أكبر بكثير من فعالية وإمكانية تنفيذ أيّ حكم أو قرار آخر صادر في الدرجة الأولى ولا سيّما تلك الصادرة عن قاضي الأمور المستعجلة.
والجدير ذكره هنا أنّ قصور القرارات الصادرة عن قضاء الأمور المستعجلة في المسائل المتعلّقة بالإعتداء على الثروة المائية عن حماية هذه الثروة هو واحد من عدّة أسباب دفعت المشرّع إلى تضمين قانون المياه ما تضمّنه من أحكام لجهة دور المحكمة الجزائية في حماية هذه الثروة، مع العلم أنّ هذا القصور غير راجع إلى امتناع قضاة العجلة عن تأدية الأدوار المناطة بهم إنّما إلى كون محكمة الإستئناف المدنية كانت تعمد في أغلب الحالات إلى وقف تنفيذ هذه القرارات، الأمر الذي جعلها غير ذي جدوى. بحيث يكفي الإطلاع على الواقع البيئي الكارثي في لبنان لكي ندرك التقاعس الفعلي للسلطات القضائية المختصة عن حماية البيئة.
6- تشديد العقوبات
تبقى الإشارة إلى أنّه وعلى صعيد الوصف الجرمي للجرائم الناشئة عن مخالفة قانون المياه، فبعد أن كانت الجرائم في القانون القديم تقتصر على المخالفات، والمخالفات المشدّدة والجنح، جاء القانون الجديد ليضيف الجنح المشدّدة في مقابل إلغاء المخالفات المشدّدة. أمّا بالنسبة للغرامات التي يجوز فرضها على المخالفين، فقد تمّ في القانون الجديد إعتماد مبدأ “من يخالف أكثر يدفع أكثر” من خلال ربط معدّلات الغرامات بالحدّ الأدنى للأجور، بحيث إنّه يتمّ احتساب هذه الغرامات من خلال إجراء عملية ضرب بهذا الحدّ وذلك بخلاف الذي كان معمولًا به في القانون القديم حيث كانت معدّلات الغرامات ثابتة لا تتغيّر وفقًا للتقلّبات التي تطرأ على الحدّ الأدنى للأجور. الأمر الذي جعل من هذه الغرامات ذات فعالية محدودة لاسيّما اليوم في ظلّ فقدان العملة الوطنية لقيمتها. يستنتج بالتالي أنّ المشرّع بادر في قانون المياه الجديد إلى تشديد العقوبات الجزائية على المخالفين لاسيّما لناحية فرض غرامات موجعة من شأنها ردع هؤلاء.
إستحداث دور موظّفي وزارة الطاقة والمياه والمؤسّسات العامة الاستثمارية للمياه من خلال منحهم صلاحيات الضابطة العدلية، وفتح المجال أمام إرسال محاضر المخالفات مباشرة إلى القاضي المنفرد الجزائي مع ما يستتبعه ذلك من تحريك للدعوى العامة من دون انتظار قرار النيابة العامة التي تمّ إلغاء حصرية اللجوء إليها في هذا النوع من الجرائم، وتوسيع مروحة التدابير التي يمكن للمحكمة اتخاذها واعتبار الأحكام الصادرة عنها معجّل التنفيذ بقوّة القانون مع تقييد حقّ المحكمة الأعلى درجة في وقف تنفيذها، وتشديد العقوبات التي يجوز فرضها على المخالفين. هدف المشرع من كافة هذه الأحكام التي أقرّها بموجب القانون رقم 2020/192 الصادر في 16 تشرين الأوّل 2020 والرامي إلى تعديل القانون رقم /77/ تاريخ 2018/04/13(قانون المياه) إلى تفادي العراقيل التي كانت في السابق تمنع أو تعيق أيّ مكافحة فعّالة للجرائم الناشئة عن الإعتداء على الموارد المائية.
شدّد المشّرع في المادة /97/ من القانون رقم 2020/192 على أنّ تطبيق الأحكام الجزائية لا يحول دون ممارسة السلطات الادارية المختصة صلاحية اتخاذ القرارات أو تنفيذ التدابير.
7- تطوير وتفعيل الأحكام الإدارية
لم يكتف المشرّع في القانون رقم 2020/192 بتطوير الأحكام المتصلة بالملاحقة الجزائية، بل عمل أيضًا على جعل الملاحقة الإدارية للمعتدين على الثروة أكثر فعالية، وهذا بالتحديد ما نستشفّه من خلال إجراء مقارنة بسيطة بين نصّ المادة /27/ من القانون رقم 2018/77 ونصّ المادة /25/ من القانون الجديد المتعلّقتين بحماية الموارد المائية من التلوّث من خلال التدابير الإدارية. ففي حين كانت المادة /27/ تحصر بوزارة الطاقة والمياه صلاحية حماية الموارد المائية من التلوّث، جاءت المادة /25/ لتلغي مثل هذه الحصرية من خلال إضافة المؤسّسات العامة الإستثمارية للمياه كجهة صالحة لممارسة هذه الصلاحية. لكنّ الأهمّ من ذلك، أنّه وتمكينًا للوزارة ولهذه المؤسّسات من تأدية الأدوار المناطة بها بفعالية حدّدت المادة /25/ مجموعة من التدابير الإدارية([8]) التي يمكن اتخاذها والتي تصبّ جميعها في خانة وضع حدّ للتلويث الحاصل وإعادة الحال إلى ما كانت عليه.
إداريًا كذلك وعلى صعيد بدل التعويض عن التلوّث، إقترح القاضي جاد الهاشم ووافق المشرّع على أن يتمّ النصّ في قانون المياه الجديد وتحديدًا في المادة /51/ منه على شروط صارمة أمام اللجوء إلى عدم معاقبة الأشخاص الطبيعيين والمعنويين الذين تؤدّي طبيعة بعض نشاطاتهم إلى حصول تلويث في النظم البيئية والمائية والإكتفاء بدلًا عن ذلك بفرض بدل تعويض عليهم يتمّ تحديده بمرسوم بناء على اقتراح الوزير. فيقتضي، من جهة أولى، أن يكون التلويث الذي ينتج غير قابل للتخفيف والمعالجة المسبقة. من جهة ثانية، يجب أن لا تتجاوز نسبة التلوّث المعايير المقبولة وطنيًا وعالميًا، وإلاّ في حال عدم توافر واحد من الشرطين، فعندها يتعرّض الملوّث للعقوبات الجزائية المنصوص عليها في القانون. لم تكن هذه الشروط التي تمّ فرضها من أجل قطع الطريق على أيّ تواطؤ محتمل بين السلطة السياسية والملوّثين متوافرة في القانون القديم، بحيث كانت المادة /52/ منه تشير فقط إلى خضوع الأشخاص الطبيعيين والمعنويين الذين تؤدّي طبيعة نشاطاتهم إلى تلويث أو زيادة في نسبة تلوّث المياه أو ترد في الوسط المائي إلى موجب دفع بدل تعويض، ممّا يعني أنّ مجرّد كون طبيعة هذه النشاطات تؤدّي إلى تلوّث، كان يكفي من أجل عدم ملاحقة الأشخاص الملوّثين، الأمر الذي كان يفتح المجال أمام هؤلاء للمضي في نشاطاتهم الملوّثة مقابل دفع بدلات تكون زهيدة في معظم الأحيان.
أصبح من الواضح أنّ حماية المصلحة القانونية التي توجد خلفها الثروة المائية بات في صلب اهتمام المشرّع اللبناني، فبعد سنوات طويلة من اللامبالاة، أدرك المشرّع خطورة الوضع وأنّ حماية الثروة المائية والمصلحة القانونية التي تمثّلها هو من المصالح العامة التي توازي في أهمّيتها المصالح القانونية الأخرى، بحيث إنّ الاعتداء على البيئة يشكّل جرمًا يمكن أن يكون أشدّ وأخطر من الجرائم التقليدية بنتائجه ومفاعيله.
فإذا كان المتضرّر من جريمة هو فرد واحد من أفراد المجتمع، فإنّه من الثابت أنّ الأخطار الناجمة عن الإعتداء على الثروة المائية تمتد لتشمل بآثارها ليس فقط مصلحة مواطن بمفرده، إنّما المجتمع بأكمله، بل وأيضًا تشكّل تهديدًا حقيقيًا للأجيال المستقبلية مع ما تتضمّنه من اعتداء واضح على الحقّ في العيش في بيئة سليمة ونظيفة وهو الحقّ الثالث من حقوق الإنسان، بعد الحقوق المدنية والسياسية.
من أجل كلّ ذلك وانطلاقًا من الثغرات الواردة في القانون رقم 2018/77 وأيضًا تلك الواردة في النظام القانوني اللبناني على المستوى الإجرائي والعقابي على ما يظهر عمليًا، صدر القانون رقم 2020/192.
لكنّ العبرة تبقى في تنفيذ هذا القانون، وبهدف ذلك وجّهت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني بشخص مديرها العام الدكتور سامي علوية سلسلة كتب حول وجوب المباشرة بتطبيق أحكام هذا القانون إلى كلّ من وزراء الداخلية، والعدل، والصناعة، والبيئة والطاقة، كما إلى حضرة مدعي عام التمييز. وفي كتابها إلى وزيرة العدل الدكتورة ماري كلود نجم طلبت المصلحة من معاليها “تكليف من يلزم بالتعاون لحسن تطبيق وتنفيذ أحكام المادة 94 المنصوص عنها في القانون المذكور”، كما تمّ الطلب إليها بـ”التفضّل بإعداد المرسوم اللازم المنصوص عنه في الفقرة رقم 3 من المادة المذكورة نظرًا لأهمّية الإجراءات المنصوص عنها في المادة المذكورة في حماية الموارد المائية والبيئية لجهة جواز إحالة محاضر الجرائم المحرّرة من موظّفي الوزارة والمؤسّسات العامة الاستثمارية للمياه، فورًا إلى القاضي المنفرد الجزائي المختص”.
أمّا في كتابها إلى حضرة مدعي عام التمييز القاضي غسّان عويدات فأشارت المصلحة إلى وجوب توجيه الطلب إلى “كافة النيابات العامة المعنية بوجوب المباشرة بتطبيق أحكام قانون المياه” كما “والتفضّل بتكليف من يلزم بالتعاون لحسن تطبيق وتنفيذ أحكام المادة 94 المنصوص عنها في القانون المذكور… والتفضّل بتكليف النيابات العامة عند الإقتضاء بالتفضّل بتأمين الإشارات القضائية اللازمة لحسن تنفيذ التدابير الإدارية المنصوص عنها في القانون المذكور، كما والإستعانة بالتدابير المنصوص عنها في المادة 95 من القانون رقم 192 الصادر بتاريخ 16 تشرين الأوّل 2020 في إعطاء الإشارات القضائية”. أما الكتب الأخرى الموجّهة فتمحورت جميعها حول تكليف من يلزم كلّ ضمن نطاق صلاحياته من أجل العمل على حسن تطبيق وتنفيذ القانون المذكور.
تجدر الإشارة أخيرًا إلى أنّ تاريخ 2020/12/24 شهد أوّل تطبيق لقانون المياه الجديد، بحيث إنّ رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل القاضية هيلانة اسكندر إدعت باسم الدولة اللبنانية على كلّ الذين تعدّوا على مجرى نهر الناعمة وذلك سندًا للمواد /745/ و/747/ و/748/ من قانون العقوبات اللبناني (الجرائم المتعلّقة بنظام المياه)، معطوفة على المواد /91/ و/92/ و/95/ و/96/ من القانون رقم 2020/192، طالبة إزالة التعدّي وإعادة الحال إلى ما كانت عليه، واتخاذ التدابير المنصوص عنها في القانون الجديد. يلاحظ هنا أنّ تطبيق هذه التدابير لا يقتصر فقط على الجرائم المنصوص عليها في قانون المياه، إنّما يمتد تطبيقها ليشمل كافة الجرائم الناشئة عن التعدّي على الثروة المائية في لبنان، إذ إنّ قانون المياه الجديد حدّد في المادة /89/ منه عددًا من القوانين المشمولة بأحكامه وأصوله الجزائية الجديدة (قانون العقوبات، والقانون رقم 2002/444 المتعلّق بحماية البيئة، وقانون الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة…)([9]).

http://77.42.251.205/LawView.aspx?opt=view&LawID=285835
*محام متدرّج في نقابة المحامين في بيروت ، ماجستير في القانون الجزائي- الجامعة اللبنانية، ماجستير في “المنازعات، التحكيم والطرق البديلة لحلّ النزاعات”-الجامعة اللبنانية- الفرع الفرنسي.
هوامش:
([1])حضر الإجتماعات النيابية المخصّصة لمناقشة اقتراح القانون الرامي إلى تعديل قانون المياه ممثّلون عن وزارة الطاقة والمياه وللمرّة الأولى ممثّلون عن المؤسّسات العامة الاستثمارية للمياه، كما حضر ممثّل وزارة العدل القاضي الدكتور جاد الهاشم الذي لعب دورًا أساسيًا في تعديل الأحكام الجزائية، وهو قاض ملحق في هيئة القضايا في وزارة العدل وحائز على دكتوراه في القانون الجزائي من جامعة “باريس 1”.
([2]) غالباً ما يكون موضوع جرائم الإعتداء على الثروة المائية هي الأملاك العمومية وليست الخاصة، الأمر الذي ساهم بانتشار ظاهرة اللاعقاب بشأنها لأنّها لا تجد متضرّرًا مباشرًا يدافع عنها، ومن جهة أخرى من الممكن أن لا يعرف الضحية في الجريمة البيئية، فقد تجتمع بشخص المعتدي صفة الضحية والمجرم. كما قد يتأجّل تحديد الضحية إلى الأجيال القادمة التي لا تعاصر الجريمة لكن ترث مسموعها.
([3]) تستطيع المحكمة المختصة أن تقضي أيضًا:
1 – بتعليق العمليات أو النشاطات أو الأشغال؛
2 – بتوقيف العمليات أو بمنع استخدام التجهيزات أو المنشآت؛
3 – بإزالة التجهيزات أو المنشآت؛
4 – أن تفرض إعادة تأهيل الوسط المائي أو النظام البيئي؛
5 – أن تقضي بنشر قرارها بكامله أو مقتطفات منه في صحيفتين يوميتين.
([4]) بالإضافة إلى العقوبات الجزائية والغرامات المحكوم بها، على المحكمة في حال تبيّن أن الضرر الناتج عن الأفعال والجرائم المرتكبة يؤدّي إلى الإضرار بصحّة الإنسان أو النظم البيئية المائية أو الإضرار بالمياه كمًّا أو نوعًا، أن تحكم بـ:
1 – تعليق العمليات او النشاطات أو الأشغال.
2 – توقيف العمليات أو منع استخدام التجهيزات أو المنشآت.
3 – إزالة التجهيزات أو المنشآت و/أو مصادرتها.
4 – فرض إعادة تأهيل الوسط المائي و/أو النظام البيئي.
5 – إتخاذ التدابير كافة الرامية إلى إزالة الضرر ومنع تفاقمه.
([5]) وفي حال لم تقرّر محكمة استئناف الجنح وقف تنفيذ التدابير المتخذة ستبقى هذه التدابير نافذة على الأقلّ حتّى صدور حكم محكمة الإستئناف في حال كان هذا الحكم مناقضًا لماً قرّره القاضي المنفرد وإلاّ ستصبح التدابير المتخذة مبرمة وتبقى نافذة بشكل دائم.
([6]) المادة /577/ من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني.
([7]) المادة /77/ من نظام مجلس شورى الدولة.
([8]) التدابير الإدارية المنصوص عليها في المادة 25 من القانون رقم 2020/192 هي التالية:
أ – منع نشاط معيّن يسبّب أخطارًا جسيمة للنظم البيئية المائية أو منع متابعة تنفيذ هذا النشاط.
ب – تنفيذ أعمال الإصلاح كإزالة التلوّث وصيانة الأماكن على نفقة مسبّب الضرر.
ج – فرض الإلتزامات الإدارية والفنّية والغرامات.
د – كلّ تدبير يهدف للوقاية أو الحدّ من كلّ ضرر يصيب النظم البيئية المائية.
([9]) يراجع في هذا الصدد نص المادة /89/ من القانون رقم2020/192 .
“محكمة” – الإثنين في 2021/3/22
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتبادل أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!