علم وخبر

قصّة “زينب” وهمس”السترة والشرف”.. جريمة أوغل الجميع في جلد ضحيتها/راجانا حمية

راجانا حمية*:
أُحرقت زينب الحسيني، القاصر ابنة الـ14 ربيعاً في منطقة برج البراجنة. لكنّ جريمة الحرق لم تنتهِ بموتها، وإنّما على العكس، بدأت فصول جريمة جديدة تمادى مرتكبوها في جلد الضحية، حتّى في “عزّ” موتها، من خلال تحميلها مسؤولية ما حصل لها. هكذا، ارتبطت قضية زينب بمسار منظومة ثقافية تقوم على الاستقواء وتحميل الضحية المسؤولية، ولو كانت قاصراً.

جريمة برج البراجنة.. إبنة الـ 14 كانت على قيد الحياة عند إحراقها/علي الموسوي


أواخر الأسبوع الماضي، هزّت جريمة مروّعة منطقة برج البراجنة، راحت ضحيتها زينب الحسيني ابنة الـ 14 عاماً. تعدّدت القصص التي رافقت الجريمة، وتشعّبت فصولها، وكان اللافت فيها كثرة “شهود العيان” الذين سبقوا التحقيقات الرسمية في تحليلاتهم.
في الروايات الكثيرة التي نُسجت حول موت الطفلة، إثنتان غالبتان، إحداهما تقول إنّ الطفلة غادرت منزل ذويها في الشياح قبل 12 يوماً من الجريمة ولجأت إلى منزل م. س. وابنه أ. س.، وكانت في المنزل نفسه طفلة أخرى يرِدُ تعريفها في الروايات المتناقلة على أنّها “حبيبة” أ. س. قبل يوم من الجريمة، حدث خلاف بين زينب من جهة والطفلة الأخرى وأ. س من جهة أخرى، خرجت على إثره الضحية من المنزل طالبة مساعدة س. س.، ابن عمة أ. س.، فحضر الأخير برفقتها إلى المنزل وتعارك مع خاله وابن خاله الذي طعنه بالسكين. عندها، توعّد خاله وابن خاله بحرق المنزل، وهو ما حدث. إحترق المنزل وكانت زينب داخله.
الرواية الأخرى تقول إنّ زينب عندما تركت منزلها في الشيّاح توجّهت إلى منزل خالتها، ومن هناك اتصلت بوالدها وأخبرته بأنّها تعرّضت لحادث، قبل أن تترك منزل خالتها إلى مكانٍ آخر. وهذه الرواية، كما يتناقلها البعض عن والدها، تقول بأنّ الأخير فوجئ باتصال من أحد المخافر يطلب منه التعرّف إلى جثّة ابنته.
ما حدث بعد ذلك كان بداية قصّة زينب. تلك التي صاغها الناس، كما الخبر الأوّلي الصادر عن قوى الأمن الداخلي، والذي سُرّب – كالعادة – وتمّ تناقله عبر تطبيق “الواتس آب”، حتّى قبل أن يصبح تحقيقاً رسمياً. بغضّ النظر عن حيثيات الجريمة، تعيد قصّة زينب إلى الواجهة قضايا كثيرة كان لوم الضحيّة فيها أقوى من فعل جريمة القتل. لم يعد الجرم محصوراً بثلاثة شبّان، إذ اشترك كثر في الجريمة، من خلال محاكمة الضحية وجلدها. ويكفي لفهم ذلك قراءة الخبر الأمني الأوّلي وهمس الناس عن “السترة” ونظرة مجتمع برمّته إلى “البنت التي تهرّب من منزل ذويها.”
جولة في الحيّ الذي وقعت فيه الجريمة تكفي لفهم كلّ السياق الذي رافق قصّة زينب بعد موتها. في عين السكّة، حيث وقعت الجريمة، يهمس الناس بما حدث همساً. عند السؤال عمّا حدث قبل أربعة أيّام هنا، يغلب الصمت، فمعظمهم لا يريد التحدّث على اعتبار أنّ “البنت صارت بديار الحقّ”! أمّا البعض الآخر، “المستاء” ممّا حدث، فيصوّب روايته نحو الضحية “عيب الواحد يحكي… بس بيقولوا كانت هيدي البنت تتردّد على بيت م.س. سابقاً، وصيته مش حلو وابنه وابن أخته يتعاطيان المخدّرات”.
هؤلاء الذين يجاهرون بقولهم غالباً ما يستعيرون في ختام روايتهم المنسوجة عن الضحية عبارات معتادة عندما تقع “الفضيحة”، على شاكلة “الله يستر على بنات العالم” و”ربّنا أخبر فيها.”
لا تحمل تلك العبارات مفاجآت، فما قاله الناس في برج البراجنة لا يعدو كونه مساراً عادياً في “ضيعة” تعتبر في قائمة عاداتها وتقاليدها أنّ الجريمة التي حدثت لم تكن لتحدث “لو لم تأتِ هي إلى هنا”.
وهذا المسار طبيعي، خصوصاً عندما يجري التعاطي مع ضحية أنثى في ظلّ منظومة متجذّرة قوامها “ثقافة الإستقواء”، على ما تقول الناشطة الحقوقية المحامية منار زعيتر.
هنا، في برج البراجنة الضيعة، ثمّة حسابات للعائلات، فليس عليك أن تستغرب إن واجهك أحدهم بالقول “بتعرف عشان عائلات، يعني عم نحاول نحلّها”. والحلول هنا تعني أن نُصدر بياناً ندين فيه ما حدث، ثمّ ينتهي كلّ شيء. في حالة زينب، يبدو أنّ هذا ما سيحدث، وغالباً هو ما يحدث في قضايا العنف والقتل التي تكون “بطلاتها” نساء، إذ دائماً ما “تُلام الضحية”، تقول زعيتر. وهذه نتيجة المنظومة الثقافية التي غالباً ما تلازمها كلمة “بس”.
عندما قُتلت زينب، كان جلّ التعليقات متمحوراً حول تلك الـ”بس”، كالقول مثلاً “حرام، بس هي لو مش جاية لعندهن ما كان صار اللي صار”، وهي جملة تكرّرت على أكثر من لسان. هذه الـ”بس” هي المسار الذي برّر جرائم كثيرة وخفّف من وقعها، وهي التي ستبرّر اليوم جريمة قتل زينب.
من خلال عرض أحداث مشابهة، تصبح المعادلة هي التالية: تُنسى الضحية وينساق الكلّ خلف الدوافع “التي تعفي المرتكبين من هول الجريمة”، على ما تقول زعيتر. ويمكن ترجمة هذه المعادلة في حالة زينب، فـ”السمعة” و”الشرف” و”الصيت”، أنسَت المجتمع أنّ التي قُتِلت طفلة قاصر أوّلاً وأنّ هناك 3 مجرمين ارتكبوا جريمة “من أبشع الجرائم”، أضف إلى ذلك أدوات الجريمة، ما يجعل جريمة زينب بـ”3 جرائم”.
لكن، مع ذلك، ذهب الكلّ إلى محاكمة الطفلة على تصرّفاتها، علماً أنّه إن كان لا بدّ من الحديث عن مأساة زينب، فيجب البدء فيها من منزل العائلة، حيث كانت تتعرّض للعنف الجسدي والنفسي وكانت بسببه تترك المنزل في كلّ مرّة، آخرها قبل الجريمة. “كما يمكن التدليل على ذلك من الشكوى التي تقدّمت بها الفتاة ضدّ والدها بسبب تعرّضها للعنف”، تقول المحامية ليلى عواضة من منظّمة كفى عنف واستغلال.
في المجتمعات التي تحاكم طفلة، كزينب، “لم نخلق رفضاً تاماً للعنف الجنسي والجسدي ضدّ المرأة خارج إطار الملامة والإدانة للضحية”، على ما تقول زعيتر، ويأتي ذلك من ضمن سياق متكامل لبيئة ثقافية تعمل على تأطير المشكلة وسبك أحداثها، وهو سياق “يبدأ بالتربية، مروراً بالإعلام والمسلسلات والمجتمع”… وحتّى في تحقيقات قوى الأمن التي تتابع الجرائم. فرغم كلّ التدريبات التي خضع لها عناصر القوى الأمنية للتعاطي بمقاربات مختلفة مع موضوع العنف في ما يخصّ النساء، لا تزال القضيّة في الخبر الأمني تحمل دلالات إجتماعية “تخلق عند الناس مبرّرات لوقوع الجريمة، ويصبح التبرير على شاكلة أنّه: أكيد في شي لصار هيك”. حتّى في كتابة الخبر أيضاً التي غالباً ما تقزّم الضحية وفعل قتلها، كما ورد في الخبر الأوّلي عن أنّه “احترقت شقّة وفي داخلها وجدت جثّة متفحّمة”، ثمّ يكمل التحقيق الأوّل بعد ذلك ليجلد الضحيّة أكثر ويخفّف من قوّة فعل الجريمة، فيقول “تبيّن بأنّ العلاقة التي تربط أفراد القضيّة هي تعاطي المخدّرات (…) مرجّحاً إمكان أن تكون زينب لحظة وفاتها تحت تأثير المخدّرات»، علماً أنّه بحسب التحقيق المسرّب نفسه لا يزال بانتظار فحص الدم، لتبيان ما إذا كانت الضحيّة قد تعاطت المخدّرات أم لا.
تعيد قضيّة زينب التذكير بقضيّة الفتاة القاصر التي اغتُصبت في منطقة ضهر العين في طرابلس على يد ثلاثة شبّان، لتنصبّ التعليقات على لوم الضحية على قاعدة “إنو شو مطلعها معو”، وهو ما انسحب تسخيفاً للفعل في المحاضر الأمنية وفي القضاء الذي انتهى الفعل المرتكب في حقّ الفتاة بإخراج الشبّان الثلاثة بكفالة لا تتعدّى المئة ألف ليرة. ويمكن العودة لحادثة أخرى لا تقلّ بشاعة، وهي قضية قتل منال العاصي على يد زوجها محمّد النحيلي، حيث أحيت رئيسة محكمة الجنايات في بيروت، هيلانة اسكندر، جريمة الشرف في حكمها المخفّف بحقّ النحيلي. فقد لبست اسكندر ثوب الرقيب الاجتماعي وقرّرت خفض عقوبة النحيلي من الإعدام إلى الحبس لمدّة خمس سنوات، سنداً للمادة 252 من قانون العقوبات. وهي المادة التي تنصّ على أنّه “يستفيد من العذر المخفّف فاعل الجريمة الذي أقدم على جريمته بسورة غضب شديد (…)”!
قتلت زينب، لكنّ فعل القتل لم ينتهِ بإحراقها، إذ يتوالى إلى اليوم هذا الفعل مع جلدها من قبل المجتمع الذي لا تزال القوانين فيه مجرّد حبر على ورق، إلى التحقيقات المسرّبة، إلى الدولة التي تنتظر وقوع الجريمة من دون أن تستبق ذلك بالوقاية والحماية الإجتماعية، إلى قضاء حماية الأحداث المتورّط أيضاً، خصوصاً أنّ زينب القاصر كانت قد تقدّمت بشكوى عنف أسري.
المشكلة هنا في دور قضاء الأحداث “القاصر” عن توسيع مفهوم الخطر. المسؤولون عمّا جرى لزينب هم ثالوث الأب – الذي استحال بطلاً عقب مقتل ابنته – والمجتمع والدولة.
المصدر: جريدة الأخبار.
“محكمة” – الثلاثاء في 2020/9/22

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!