مقالات

لغة جديدة للعدالة في لبنان..القضاء حين يناقض ذاته ويمتنع عن الحكم/أنطوان مسرّه

أنطوان مسرّه*:
من الضروري الانكباب على حالات واقعية في القضاء اللبناني اليوم بدلاً من الاسترسال في عموميات حول واقع القضاء واستقلاليته وعدالته.
سعيت بعد سنوات من الممارسة والمعاناة إلى تجنّب الاطلاع على قرارات وأحكام. لكن عندما أطلعت على القرار رقم 2019/23 تاريخ 2019/9/12 للمجلس الدستوري المتعلّق بالقانون رقم 144 تاريخ 2019/7/31 حول الموازنة والموازنات الملحقة لعام 2019 وجدت أنّ هذا القرار يناقض كلّ المعايير الاجتهادية الدولية وكلّ ما يتعلّمه طلاّب حقوق في كلّيات الحقوق. القانونيون هم اليوم في مواجهة لغة قضائية جديدة novlangue حسب وصف George Orwell.
يتعلّق الموضوع بالموازنة والضرائب على معاشات تقاعد القضاة وبالتعيينات في الإدارات العامة.
لا أدخل في تفسيرات وتعليقات بل أبرز مسألتين جوهريتين:
1. تناقض بين الحيثيات والفقرة الحكمية: يرد في الحيثيات حرفيًا:
“حيث إنّ إجازة الدستور اللبناني، في المواد 81، 82، 83 منه للسلطتين الإجرائية والتشريعية، فرض وجباية الضرائب العمومية، لا يعني إباحة خرق مبدأ المساواة بين اللبنانيين (…) فتكون التعديلات التي أدخلتها المادة 23 المشار إليها على المادة 85 من قانون ضريبة الدخل، غير مؤتلفة مع أحكام الدستور”.
أمّا في الفقرة الحكمية، فيرد ما يلي وهو النقيض تمامًا:
“10. ردّ الطعن الرامي إلى إبطال المواد 23، 47، 48 استنادًا للتعليل الوارد في متن القرار”.
التناقض معلن، واضحِ، صريح ومؤكّد، ولا يندرج إطلاقًا في الخطأ المادي أو الطباعي.
صدرت عالميًا مُجلّدات حول الصياغة التشريعية. وعُقدت مؤتمرات عالمية حول صياغة الأحكام الدستورية، بخاصة مؤتمر باريس لجمعية المحاكم والمجالس الدستورية الفرنكوفونية ACCPUF في  (15- 11/16/ 2017) وشاركت فيه وصدرت وقائعه في كتاب. هل نُدرج النمط الجديد اللبناني في صياغة الأحكام ضمن أعمال لجنة البندقية للعدالة الدستورية ونُدخله في الاجتهادات العالمية؟
يحقّ للنوّاب الـ 11 الذين تقدّموا بالطعن أمام المجلس الدستوري المطالبة بقرار لاستيضاح العلاقة بين المضمون والفقرة الحكمية. تعني هذه القضيّة كلّ أعضاء السلك القضائي.
2. الامتناع عن الحكم أصبحت تسميته لبنانيًا بعد اليوم “عدم التصدّي”!

في البحث (أو بالأحرى عدم البحث) في مدى دستورية الفقرة الأخيرة من المادة 80 المتعلّقة “بحفظ حقّ الناجحين في المباريات والامتحانات التي أجراها مجلس الخدمة المدنية بناء على قرار مجلس الوزراء وأعلنت نتائجها حسب الأصول بتعيينهم في الإدارات العامة”، يرد في حيثيات القرار ما يلي:
“حيث إنّ الفقرة الأخيرة من المادة 80، على الرغم من عدم انسجامها مع الدستور، تثير موضوعًا شائكًا مرتبطًا ولو بصورة غير مباشرة بتفسير المادة 95 من الدستور،
” وحيث إنّ رئيس الجمهورية أرسل إلى المجلس النيابي طلبًا يرمي إلى تفسير المادة 95 من الدستور،
“وحيث إنّ المجلس النيابي أصبح واضعًا يده على الموضوع (حدّد موعد جلسة تفسير المادة 95 في 17 تشرين الأوّل 2019).
“لذلك لم يقضِ المجلس الدستوري بإبطال الفقرة الأخيرة من المادة 80.”
يرد في الفقرة الحكمية في القرار:
“13: عدم التصدي لدستورية المادة 80 استنادًا للتعليل الوارد أعلاه”.
هل أصبح “عدم التصدّي” مفهومًا جديدًا في علم الحقوق والقضاء والعدالة في لبنان؟ هل هو تسمية جديدة لبنانية للامتناع عن الحكم؟ وهل يوجد “قضايا
شائكة” يجوز للقضاء تجنّبها و”عدم التصدّي” لها وترك مُساومتها في التنافس السياسي؟ وهل لم يعد المجلس الدستوري السلطة القضائية العليا في تقرير دستورية القوانين؟ وهل أصبح القضاء الدستوري بعد اليوم في لبنان خاضعًا للسلطتين التشريعية والتنفيذية؟ وهل يجوز بعد اليوم للقضاء في لبنان “عدم التصدّي” “للقضايا الشائكة”، في حين يُطالب الناس بمكافحة الفساد في أعلى القمّة؟
في مجتمع حقوقي يعالج المواطنون قضاياهم اليومية البسيطة بالحوار والتفاوض. لا تُعرض أساسًا على القضاء إلاّ “القضايا الشائكة” دفاعًا عن حقوق أساسية في الحرّيات والمساواة والكرامة والتوازن في العلاقات التعاقدية والحياة العامة… هل أصبح القضاء اللبناني غير معني “بالقضايا الشائكة”؟ هل يعتمد بعد اليوم “عدم التصدّي”؟
تعني عبارة تصدّي في القاموس: “جابه، واجه، تحدّى، قاوم، تعرّض، عارض، إعترض، إهتم بالشيء، تطرّق إلى، عالج” (د. روحي بعلبكي، المورد الثلاثي، دار العلم للملايين، 2004). وتعني: “تعرّض للأمر” (المنجد الابجدي، دار المشرق). وتعني: “وصدّه عن الأمر يصدّه صدًّا منعه وحرفه عنه” و”صدّ يصدّ صدًّا: استغرب ضحكًا… وصدّ ويَصُدّ: ضَجّ وعجّ” (لسان العرب لابن منظور).هل أصبحت بعد اليوم القضايا المسماة “شائكة” ممنوعة على القضاء؟
*نشر العضو السابق في المجلس الدستوري الدكتور أنطوان مسرّه مقاله هذا في صحيفة “النهار” يوم الجمعة الواقع فيه 29 تشرين الثاني 2019، وأعاد إرساله إلى “محكمة” لنشره مجدّداً تعميماً للفائدة.
“محكمة” – الإثنين في 2019/12/2
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!