أبرز الأخبارعلم وخبرميديا

أين أصابت وأين أخطأت القاضي شواح بإلزام وزارة الصحّة تلقيح مواطن ثمانيني؟/علي الموسوي

كتب علي الموسوي:
أصدرت قاضي الأمور المستعجلة في بيروت كارلا شواح قرارًا “نافذًا على أصله” قضى بإلزام وزارة الصحّة العامة بإعطاء اللقاح المضاد لفيروس “كورونا” لمواطن لبناني ثمانيني العمر سجّل اسمه في المنصّة المنشأة لتلقيح اللبنانيين بصورة مجانية ولم يصل الدورُ إليه بعد، وذلك طائلة “غرامة إكراهية مقدارها عشرة ملايين ليرة لبنانية عن كلّ يوم تأخير في التنفيذ”.
وقد انقسمت الآراء القانونية لقضاة ومحامين ورجال قانون حول هذا القرار الجديد في موضوعه بين مؤيّد ومعارض، وداعم ومنتقد، فمنهم من اعتبر أنّ القاضي شواح أصابت عين الحقيقة، ومنهم من وجد أنّها أخطأت ولم تكن موفّقة في الحيثيات القانونية التي بنت النتيجة عليها، لذلك وجب التصدّي لكلّ هذا النقاش العلمي والقانوني بطريقة محايدة بهدف تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
وفور تناقل قرار القاضي شواح بطريقة سريعة، عمدت وزارة الصحّة العامة إلى إصدار بيان عارضت فيه ما ذهبت إليه شواح وأكّدت واقعة وجود إسم مقدّم الإستدعاء بواسطة محام، ضمن المنصّة الإلكترونية المعتمدة للراغبين بتلقّي اللقاح، لكنّ موعد دوره لم يحن بعد وإنْ كانت المرحلة الأولى انطلقت في 14 شباط 2021، وهذا أمر بديهي ما دام أنّ هذا الشخص تأخّر في تسجيل اسمه منذ افتتاح التسجيل في 26 كانون الثاني 2021 حتّى ولو كان من ضمن هذه المرحلة المخصّصة للعاملين في القطاع الصحّي والفئة العمرية 75 وما فوق.
ولغاية كتابة هذه السطور عن هذا القرار، لا يزال هناك أطباء وطبيبات وممرّضون وممرّضات يتلقون اللقاح المعتمد في لبنان، باعتبار أنّهم أوْلى من سواهم من المواطنين والعاملين في مختلف القطاعات الحياتية، حتّى ولو لم تكن شريحة لا بأس بها منهم على تماس يومي مباشر مع المصابين بفيروس “كورونا”، ومع ذلك وجب تلقيحهم في الدرجة الأولى وفي المرحلة الأولى التي خصّصت أيضًا لمن هم في الخامسة والسبعين من العمر وما فوق.
وليس بالضرورة أن تقوم وزارة الصحّة العامة بتلقيح الشخص في يوم تسجيل اسمه في المنصّة الإلكترونية، فهناك من سبقه من فئته العمرية في تدوين اسمه وما عليه سوى الإنتظار قليلًا بالتزام الحجر المنزلي والإمتناع عن الخروج من البيت إلى الشارع واتخاذ كلّ الإجراءات الوقائية المطلوبة على غرار ما كان حاصلًا خلال فترة الإقفال العام إذ كان هناك تحذير صارم من وزارة الصحة ووحدة إدارة مخاطر الكوارث بمنع من هم في سنّ الخامسة والستين من التجوّل على الطرقات أو ترك منازلهم، فكيف والحال إذا كان يعاني مرضًا ما أو وضعًا صحّيًا دقيقًا كوضع المستدعي ضدّ الدولة اللبنانية في قرار القاضي شواح، والذي يقول إنّ لديه “انسدادًا في الشريان الرئيسي في رجله اليسرى”؟
وثمّة سؤال لا غنى عنه، فإذا كان من حقّ كلّ مواطن لبناني أن ينال اللقاح لتعزيز مناعة المجتمع برمّته إزاء تفشّي جائحة “كورونا” وهذا فرض واجب لا خلاف عليه متى اطمأنت روحه إلى نجاعة هذا اللقاح الذي تتضارب المعلومات الطبّية حول فائدته وتداعياته، فهل يحقّ له في حال تأخّر حصوله على هذا اللقاح أن يبادر إلى مقاضاة وزارة الصحّة عبر قاضي الأمور المستعجلة؟ فهو ليس الوحيد الذي تنطبق عليه الشروط المطلوبة والمحدّدة، وهناك المئات وربّما الآلاف غيره، فماذا لو قدّموا استدعاءات واللقاحُ لم يعد موجودًا بمتناول الوزارة بانتظار وصول دفعات إضافية منه من الخارج؟ ألا يتوجّب عليهم الإنتظار قليلًا؟ وهل يوجد خطر محدق بالمستدعي في ظلّ وجود خشية من أن يؤدّي اللقاح إلى مضاعفات صحيّة على الإنسان؟ وهل يمكن لقاضي الأمور المستعجلة أن يتدخّل بصورة عاجلة لحماية الحقّ بنيل اللقاح، والحصول على الحقّ بالصحّة والطبابة والشعور بالأمان ما دام القضاء العدلي حامي الحقوق والحرّيات؟!
وهل تجوز المقارنة بين الساعي إلى الحصول على اللقاح و”الحالم” بتيّار كهربائي على مدار اليوم وطوال الأربع والعشرين ساعة؟ وماذا لو قدّم مواطنون من مختلف الأراضي اللبنانية إستدعاءات بالجملة والمفرق ضدّ مؤسّسة كهرباء لبنان يطالبون بإلزامها بتأمين التيّار الكهربائي طوال ساعات الليل والنهار، وهذا حقّ لهم بالتنعّم بالكهرباء وواجب على الدولة اللبنانية تأمينه، والمؤسّسة المذكورة عاجزة وتلجأ إلى خيار التقنين الإضطراري وليس لديها فيول ولا اعتمادات مالية لشرائه، فهل يلزمها قاضي الأمور المستعجلة بما لا قدرة لها على القيام به وبما يفوق إمكانياتها؟
صحيح أنّه كان يتوجّب على وزارة الصحّة العامة عدم تفضيل وتمييز ثمانية نوّاب تقلّ أعمارهم عن السنّ المحدّدة ضمن المرحلة الأولى، فجرى تلقيحهم قبل غيرهم وإنْ كان اللقاح حقًّا لهم أسوة ببقيّة المواطنين ولكن ضمن موعدهم الطبيعي أيّ المرحلة الثانية، وهذا الأمر استشهدت به القاضي شواح في قرارها، إلاّ أنّه كان حريًا بها أن تضيف إليهم تلقيح الموظّفين في القصر الجمهوري الذين لا يعقل أن يكونوا كلّهم في عمر الخامسة والسبعين وما فوق، فالقصر الجمهوري ليس مأوى شيخوخة ولا دار عجزة، وبالتالي لا تنطبق عليهم هم أيضًا الشروط المطلوبة للمرحلة الأولى.
وكان على القاضي شواح ما دام أنّها استشهدت بتلويح رئيس اللجنة الوطنية للقاح “كورونا” الدكتور عبد الرحمن البزري بالإستقالة اعتراضًا على عملية “تهريب” تلقيح النوّاب الثمانية، أن تزيد إلى قرارها تلقيح عدد كبير من الأشخاص في الجامعة الأميركية في بيروت من خارج سياق الخطّة الوطنية للتلقيح، ولا تتوافر فيهم أيضًا الشروط المطلوبة في المرحلة الأولى، وكان البزري نفسه وراء منحهم هذه اللقاحات من دون وجه حقّ وفي افتئات واضح على حقوق بقيّة المواطنين اللبنانيين.
وثمّة من يرى أنّه كان يتوجّب على قاضي الأمور المستعجلة ألاّ يتطرّق إلى موضوع تلقيح النوّاب دون ذكر آخرين، وهذا أمر سياسي ونقاش في السياسة وليس مقاربة قانونية حتّى ولو تذرّع المستدعي به، كما أنّه لا يمكن اعتماده كحيثية قانونية يعوّل عليها للوصول إلى نتيجة ما، فيما الصحيح أنّ مخالفة تلقيح النوّاب هي المدماك الرئيسي الذي انطلقت منه شواح لبناء قرارها القضائي وإثبات التعدّي وتأكيد حقّ المستدعي بالتلقيح قبلهم كونه أكبر سنًّا منهم ويتوافر فيه شرط السنّ المحدّد، وبالتالي، فلو أنّ شواح تناولت التلقيح في القصر الجمهوري والجامعة الأميركية أيضًا لأعطت قرارها إثباتًا إضافيًا على حقّ المستدعي وكلّ شخص آخر يتوافر لديه شرط السنّ.
وإزاء هذا التعدّي على حقّ الحصول على اللقاح، عقدت شواح الإختصاص الوظيفي لنفسها كقاض عدلي للنظر في مخالفة الإدارة ما ألزمت نفسها به من خطّة لم تتقيّد بها سواء أكان برضاها أو قسرًا بنزولها عند طلب السياسيين ورغبتهم الجامحة في الإستحصال على كلّ شيء في هذا البلد المنهوب، وبالتالي خرجت عن الشروط الموضوعة منها لإنجاح هذه الخطّة التي تضمّنت برنامج عمل واضح ومحدّد بهدف تعزيز مناعة الناس.
واستندت شواح إلى الفقرة الثانية من المادة 579 من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تجيز لقاضي الأمور المستعجلة أن “يتخذّ التدابير الآيلة إلى إزالة التعدّي الواضح على الحقوق أو الأوضاع المشروعة”.
ثمّ عمدت شواح إلى اتخاذ قرار على عريضة بداعي وجود عجلة ماسة لقطع الطريق على استمرار الخطر الداهم الناجم عن إمكانية إصابة المستدعي بفيروس “كورونا” ما لم يحصل على اللقاح في وقته! وتجنّبت بذلك سماع ملاحظات وزارة الصحّة عملًا بما تنصّ عليه المادة 604 من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تجيز إصدار الأمر على عريضة من دون خصومة ولكنْ “في الحالات التي يصحّ فيها إصدار الأمر بدون دعوة الخصم وسماعه”.
وهنا مكمن الإشكالية التي وقعت فيها القاضي شواح، وتتمثّل في أنّه لاتخاذ أمر على عريضة يتحتّم وجود ضرر أكيد وخطر داهم لا يمكن تفاديه وبالتالي قيام تحقيق جدّي يؤكّده أو ينفيه وهو ما لم يحصل بحسب مضمون قرار القاضي شواح وعدم سماع ملاحظات وزارة الصحّة.
فهل تأكّدت القاضي شواح من الخطر الداهم والمحدق؟ وأين هو هذا الخطر الفظيع والضرر الذي قد يتفاقم في حال عدم تلقّي المستدعي اللقاح؟ وهل إعطاء اللقاح يزيل الضرر ويجنّب الإصابة ومنذ الجرعة الأولى وهو أمر موضع شكوك كثيرة لدى الدوائر الطبّية عالميًا إذ تبيّن أنّ اللقاح لا يعطي المفعول المنتظر من الجرعة الأولى، بل يستوجب أخذ جرعة ثانية بعد 21 يومًا، مع وجوب التزام المستدعي بكامل الإجراءات الوقائية من تعقيم ووضع الكمامة وعدم مخالطة مصابين والحفاظ على مسافة آمنة مع الآخرين، ثمّ أنّه لإزالة التعدّي بإعطاء المستدعي اللقاح، يتوجّب التحقّق بدقّة من وقوعه جدّيًا وهو ما يقوم بسماع ملاحظات الخصم أيّ وزارة الصحّة، الأمر الذي لم تفعله القاضي شواح.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ قيام التحقيق ضروري بناء على فحوى المادة 596 من قانون أصول المحاكمات المدنية عبر سماع الوزارة التي قد تنيره حول موضوع الطلب أو أن يمسّ القرار المنوي إصداره مصالحها بحسب منطوق المادة المذكورة، فهذا القرار يفتح الشهية على تقديم استدعاءات بالجملة ضدّ الوزارة للحصول على اللقاح بالسرعة القصوى ومن دون انتظار الدور ومن دون انتظام وتقيّد بالمراحل الموضوعة، الأمر الذي يخرج عن قدرتها ولا يمكنها تلبيته دفعة واحدة.
ففيروس “كورونا” قد يصيب الجميع ومن أعمار مختلفة، ولا يعود من حاجة إلى تنظيم عمليات التلقيح عبر المنصّة، لأنّ تلقيح الكبار والمتقدّمين في السنّ وتأخير تلقيح الشباب ومتوسّطي الأعمار يرجّح إصابة أيّ واحد منهم من أيّة فئة عمرية كانت في ظلّ الإنتشار السريع لهذا الوباء العالمي على مختلف الأراضي اللبنانية، والدليل هو كثرة أعداد المصابين يوميًا بحسب مضامين التقارير الصادرة عن وزارة الصحّة، فماذا يمكن القول إزاء هذه الفرضية ما دام أنّ إصابة المستدعي في قرار شواح هي فرضية أيضًا وليست مرجّحة الحصول؟ فـ”كورونا” لا يعترف بالأعمار وهو يجتاح الجميع ومن دون تمييز أو استثناء.
ولا توجد وجاهية في حالة القرار الراهن، ومع ذلك أصرّت القاضي شواح مرارًا على استخدام تعبير “في وجه الإدارة” و”المستدعى بوجهها”، مع أنّ التعبير القانوني السليم في مثل هذه الحالة هو “ضدّ الدولة” أو “المستدعى ضدّها” لانعدام الوجاهية في ظلّ تقديم المطالبة بموجب طلب أمر على عريضة وليس بموجب دعوى نزاعية أيّ بمواجهة الدولة اللبنانية/وزارة الصحّة.
وفرضت القاضي شواح على وزارة الصحّة ضرورة تنفيذ قرارها وإلاّ تعرّضت لغرامة إكراهية، بهدف حثّها على تنفيذ قرارها، من دون الوصول بطبيعة الحال، إلى حافة التنفيذ الجبري على الدولة اللبنانية، لأنّ الأموال الداخلة في ذمّتها المالية مخصّصة للمنفعة العامة، ولا يجوز الحجز عليها لمنع تعطيلها ووقف نشاطها وشلّ عملها.
“محكمة” تنشر قرار القاضي شواح وبيان وزارة الصحّة على النحو الآتي:
باسم الشعب اللبناني
إنّ القاضي المنفرد المدني في بيروت، الناظر في قضايا الأمور المستعجلة،
لدى التدقيق،
وبعد الإطلاع على الإستدعاء الراهن المقدّم بتاريخ 2021/3/2 من السيّد جوزف الحاج بواسطة وكيله المحامي فادي الحاج وعلى مجمل مرفقاته،
حيث يطلب المستدعي، سندًا لأحكام المادتين 579 أصول محاكمات مدنية فقرتها الأولى و589 من القانون عينه، قبول استدعائه شكلًا وإلزام وزارة الصحّة العامة بإعطائه لقاح كورونا المستورد وذلك فورًا وتحت طائلة غرامة إكراهية يترك تقديرها للمحكمة، وإلّا استطرادًا تعيين خبير فنّي تكون مهمّته مراقبة عمل المنصّة الإلكترونية التي أطلقتها الوزارة المعنية للحصول على اللقاح المذكور للمحافظة على حقّه بموعده بتلقّي هذا اللقاح وذلك على حساب تلك وزارة، وحفظ حقّه بتقديم دعوى بوجه هذه الأخيرة والنوّاب والمدراء العامين الذين تلقوا اللقاح في المجلس النيابي أمام محكمة الأساس للمطالبة بالتعويض في حال تعرّضت صحّته لأيّ انتكاسة بسبب عدم تلقيه اللقاح، وتضمين الوزارة المستدعى بوجهها الرسوم والنفقات كافة،
عارضًا أنّه من مواليد العام 1941 ويعاني من انسداد في الشريان الرئيسي في رجله اليسرى وعليه الخضوع للعلاج الطبّي طيلة حياته، وأنّه من الفئة الأكثر تعرّضًا للإصابة بجائحة كورونا وقد بادر إلى تسجيل إسمه للحصول على اللقاح عبر المنصّة الإلكترونية التي أطلقتها وزارة الصحّة العامة لهذه الغاية، وأنّه تفاجأ كغيره من المواطنين بتصريح وزير الصحّة العامة الواضح أنّه أرسل فرقة من وزارته إلى المجلس النيابي قامت بتلقيح عدد من النوّاب والمدراء العامين متجاوزًا دورهم بحسب المعايير التي وضعت للخطّة، وأنّ هذه التجاوزات والمخالفات كانت موضوع مؤتمر صحفي لرئيس اللجنة الوطنية لمكافحة وباء كورونا الدكتور عبد الرحمن البزري،
مدليًا بأنّ هذه التجاوزات والمخالفات للمعايير التي أنشئت على أساسها المنصّة تؤدّي إلى ضياع حقّه بدوره بتلقّي اللقاح وحمايته من الإصابة بالفيروس وإبعاد شبح الموت المحتمل عنه، وبأنّ التعدّي على حقّه واضح وصريح والضرر الذي قد يلحق به جسيم وقد لا يعوّض،
وحيث إنّ البتّ بطلب المستدعي في وجه الإدارة المعنية يستدعي التحقق من مدى اختصاص قضاء العجلة لتقرير اتخاذ التدبير المنشود في وجه هذه الأخيرة من جهة، ومدى توفر شروط تقريره من جهة أخرى ومن مدى إمكانية تدخّل القضاء المستعجل لتقرير هذا التدبير بموجب أمر على عريضة من جهة ثالثة، في ضوء سلوك المستدعي للأصول الإجرائية،
وحيث إنّه في المسائل المتعلّقة بتعامل الإدارة مع الأفراد يثبت اختصاص القضاء العدلي عند تحقّق حالة من التعدّي voie de fait التي تخرج فيها الإدارة عن نطاق السلطة المقرّرة لها بارتكابها عملًا ينطوي على عيب جسيم ناتج عن مخالفة خطيرة لأحكام القانون أو الأنظمة أو المبادئ العامة ويشكّل مساسًا بحقوق أساسية للأفراد، وذلك إنطلاقًا من المبدأ الراسخ في هذا المجال والذي يقيم المحاكم العدلية حارسة للملكية الفردية وللحرّية الشخصية والحرّيات العامة،
وحيث إنّ الإختصاص يعود في مثل هذه الحالة للمحاكم العدلية العادية، أيّ الغرف الإبتدائية، على أنّه يجوز للقضاء المستعجل التدخّل ضمن الشروط والحدود المقرّرة له، باعتباره فرعًا من هذا القضاء،
وحيث إنّ المادة 579 أصول محاكمات مدنية تجيز لقاضي الأمور المستعجلة في فقرتها الثانية إتخاذ التدابير الآيلة إلى إزالة التعدّي الواضح على الحقوق أو الأوضاع المشروعة،
وحيث بالعودة إلى معطيات الإستدعاء الراهن يتبيّن أنّه بتاريخ 26 كانون الثاني 2021 أطلقت وزارة الصحّة العامة منصّة إلكترونية لتسجيل الرغبة في تلقي اللقاح المضاد لفيروس كورونا المستجدّ، وفق مراحل توزيع أربع، تشمل كلّ مرحلة منها فئات مختلفة؛ وتشمل المرحلة الأولى التي انطلقت في 14 شباط 2021 العاملين في القطاع الصحّي والفئة العمرية 75 وما فوق،
وحيث إنّ المستدعي هو من مواليد العام 1941 وقد سجّل رغبته في تلقّي اللقاح المضاد لفيروس كورونا عبر المنصّة المذكورة وإنّه لغاية تاريخه لم يتمّ توفير هذا اللقاح له،
وحيث بتاريخ 23 شباط 2021 نقلت الوسائل الإعلامية المحلّية وأخرى عالمية خبرًا عن تلقي ستّة عشر نائبًا في البرلمان اللبناني اللقاح بحضور فرقة من وزارة الصحّة، وتمّ نشر أسماء النوّاب المذكورين حيث تبيّن أنّ غالبيتهم لا تندرج ضمن المرحلة الأولى من المراحل الأربع المعتمدة في المنصّة الإلكترونية المذكورة كونهم ما دون الخامسة والسبعين من العمر وغير عاملين في القطاع الصحّي، وهم السادة: إيلي الفرزلي، غازي زعيتر، علي عسيران، سليم سعادة، أنيس نصّار، نقولا نحّاس، ياسين جابر وأسعد حردان، علمًا أنّ هذا الأمر ثابت من خلال الإطلاع على السيرة الذاتية لكلّ من المذكورين عبر موقع Google،
وحيث إنّ رئيس اللجنة الوطنية للقاح كورونا الدكتور عبد الرحمن البزري دعا بعد تداول هذا الخبر إلى مؤتمر صحفي ملوّحًا باستقالته من اللجنة بسبب مخالفات تحصل في تطبيق الخطّة الوطنية للقاح؛ وفي مؤتمره، أكّد البزري تلقّي النوّاب المذكورين للقاح وتجاوز الخطّة المذكورة واصفًا ما حصل بأنّه “دقّ الإسفين في نعش خطّة التلقيح” وبأنّه “أمر فظيع” و”خرق لا يمكن السكوت عنه” و”تمييز بين المسؤولين والمواطنين”، كما أكّد أنّ الخروقات غير محصورة في المجلس النيابي بل إنّها تحصل يوميًا في مراكز التلقيح مشيرًا إلى تلقي أشخاص اللقاح في مستشفى رياق لا تتجاوز أعمارهم خمسةً وسبعين عامًا،
وحيث إنّ وزارة الصحّة العامة رعت رسميًا عملية التلقيح التي حصلت في مجلس النوّاب وتبنّتها إذ صرّح وزير الصحّة السيّد حمد حسن في حديث تلفزيوني أنّه اتخذ “قرارًا سياديًا” وارتأى بأن تتوجّه الفرق الطبّية إلى مجلس النوّاب من أجل إجراء عملية التلقيح للنوّاب “تقديرًا لجهودهم لأنّ المجلس النيابي اجتمع خلال سبعة أيّام بشكل متتال وأقرّ قانون الإستخدام الطارئ للقاح”،
وحيث يتبيّن ممّا تقدّم أنّ المستدعى بوجهها قرّرت إعطاء اللقاح لأشخاص أعمارهم دون خمسةٍ وسبعين عامًا، سواء في مجلس النوّاب أم في مراكز التلقيح، وهذه معلومة بات الجميع يعرفها ويتداولها ولم تدحض الوزارة المذكورة صحّتها، ما يدلّل إمّا على أنّها قد باشرت عمليًا بتنفيذ المرحلة الثانية من خطّة اللقاح، الأمر الذي يفترض بداهةً أن تكون قد أنهت بدايةً المرحلة الأولى منها وأعطت اللقاح للمشمولين بها كافة، غير أنّها في الواقع استثنت المستدعي، أو أنّها لم تنه بعد هذه المرحلة ووفّرت رغم ذلك اللقاح لمن ليسوا من ضمن أولوياتها في حين لم تعطه للمستدعي الذي يدخل في تلك الأولويات،
وحيث في كلتا الحالتين يكون فعل الإدارة لناحية تخلّفها لغاية تاريخه عن تزويد المستدعي باللقاح على النحو المذكور مشوبًا بعيب جسيم يتمثّل بمخالفة مضمون الخطّة الوطنية للقاح والمنصّة الإلكترونية التي أطلقتها في هذا المجال والمعايير والشروط التي وضعت على أساسها، مخالفة جسيمة وخطيرة دون أيّ مبرّر شرعي،
وحيث يتمثّل هذا العيب أيضًا بقيامها، أيّ الإدارة، بإعطاء اللقاح لنوّاب غير مشمولين بالمرحلة الأولى، بناءً على سند قانوني مشوب بعيبٍ جسيم، فالقرار “السيادي” الذي استندت إليه الوزارة في إجراء هذا العمل غير مبرّر بأيّ سند قانوني ولا يستوفي أيًّا من شروط ومعايير خطّة اللقاح والمنصّة المشار إليها، لا بل يخالفها ويستند إلى استنسابية مطلقة في توزيع اللقاح لا سيّما وأنّ تبريره بأنّه تقدير للجهود التي بذلها السادة النوّاب في إقرار قانون الإستخدام الطارئ للقاح لا يستقيم ولا يضفي عليه أيّة شرعية، لا بل هو مستغرب ويجعله على درجة أعلى من الجسامة تظهر بجلاء إلى حدّ يتعذّر معه القول إنّ هذا القرار والعمل المبني عليه يعتبر تطبيقًا لقانون أو نظام أو لاختصاص تملكه الإدارة، فإقرار المجلس النيابي لقانون الإستخدام الطارئ للقاح وانكبابه على دراسته سبعة أيّام متتالية، كما جاء في تصريح السيّد حسن، يدخل في صميم عمل هذا المجلس ومن واجباته وليس منّة منه ليكافأ عليه،
وحيث إنّ الإدارة بعملها هذا الخاطئ وغير المبرّر تكون قد ميّزت في ما بين المستدعي وسواه ممّن تلقوا اللقاح لغاية تاريخه دون أيّ مبرّر مشروع وخالفت بصورة واضحة وفاضحة مبدأ المساواة le principe de l’egalite الذي كرّسته شرعة الأمم المتحدة التي فرضت على الدول الأعضاء موجب احترام حقوق الإنسان والحرّيات الأولى والثالثة من الشرعة كما كرّسته المادة السادسة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن للعام 1789، وكرّسه الدستور اللبناني في الفقرة (ج) من مقدّمته والمادة 7 منه فساوى بين المواطنين أمام القانون وفي الحقوق والواجبات دون تمايز أو تفضيل،
وتعدّت بشكل واضح على حقّ المستدعي بالمساواة طالما أنّ اللقاح توفّر لمن تشملهم المرحلة الأولى وبوشر بإعطائه لفئات المرحلة الثانية، كما تكون قد تعدّت على حقّه في الصحّة المكرّس في دستور منظّمة الصحّة العالمية وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو حقّ إنساني أساسي، وحقّه في الحياة المكرّس كذلك في الإعلان المذكور وفي العديد من إعلانات وإتفاقيات الأمم المتحدة الأخرى، وحقّه بالحصول على اللقاح وبالحفاظ على دوره وفقًا للخطّة الوطنية المتفق عليها مع البنك الدولي،
وحيث إزاء ما تقدّم يمسي ثابتًا تحقّق حالة التعدّي الواضح من قبل الإدارة المستدعى بوجهها على حقوق أساسية للمستدعي ما يعقد اختصاص هذه المحكمة،
وحيث إنّ التعدّي المذكور من شأنه أن ينتج عنه خطر داهم يتهدّد صحّة المستدعي وحياته لا سيّما في ضوء سرعة انتشار الوباء وبالنظر لسنّ المستدعي وهو في الثمانين من العمر وما يعانيه من مرض مزمن ما يجعله أكثر وأسرع عرضة من غيره للإصابة بهذا الفيروس وربّما لخطر على صحّته أو حياته،
وحيث إنّ الفقرة الأولى من المادة 579 أصول محاكمات مدنية تجيز لقاضي الأمور المستعجلة اتخاذ التدابير المستعجلة في المواد المدنية والتجارية دون التعرّض لأصل الحقّ،
وحيث إنّ معيار اتخاذ قرار على عريضة يكمن وفقًا للمادة 604 أصول محاكمات مدنية إمّا في وجود عجلة ماسة تبرّر اتخاذ الأمر على عريضة لدرء خطر حال، أو في فقدان التدبير المطلوب إقراره كلّ فعالية في ما لو تمّ التقيّد بمبدأ الوجاهية،
وحيث في ضوء ما تقدّم، وبما أنّ المسألة تتعلّق بصحّة المستدعي وحياته وفي ضوء عدم إمكانية انتظار سلوك إجراءات التقاضي العادية لما تستغرقه من وقت فضلًا عن كونها معلّقة حاليًا، يكون طلبه إلزام المستدعى بوجهها بإعطائه لقاح كورونا مستجمعًا حتمًا في هذه الحالة ظروف العجلة القصوى الطارئة والخطورة الساطعة التي تبرّر لا بل تستوجب التدخّل السريع لهذه المحكمة لإزالة التعدّي الواقع عليه ومنع الضرر ودرء الخطر المحدق به عبر إلزام المستدعى بوجهها بتوفير اللقاح له وذلك خلال مهلة ثماني وأربعين ساعة من تاريخ تبلّغها هذا القرار وتحت طائلة غرامة إكراهية ترى المحكمة تقديرها بعشرة ملايين ليرة لبنانية عن كلّ يوم تأخير في التنفيذ،
وحيث بالوصول إلى النتيجة أعلاه يمسي نافلًا بحث كلّ ما زاد أو خالف ممّا يقضي بردّه، بما في ذلك الطلب الإستطرادي وطلب حفظ حقّ المستدعي بمطالبة المستدعى بوجهها بالتعويض أمام محكمة الأساس لأنّ الحقوق إنْ وجدت تحفظ بقوّة القانون،
لذلك،
وسندًا لأحكام المادة 579 أصول محاكمات مدنية معطوفة على المادتين 589 و604 من القانون عينه،
يقرّر:
1- إلزام المستدعى بوجهها الدولة اللبنانية – وزارة الصحّة العامة بإعطاء اللقاح المضاد لفيروس كورونا المستجد إلى المستدعي السيّد جوزف الحاج وفق الآلية المعتمدة منها وذلك خلال مهلة ثماني وأربعين ساعة من تاريخ تبلّغها هذا القرار وتحت طائلة غرامة إكراهية قدرها عشرة ملايين ليرة لبنانية عن كلّ يوم تأخير في التنفيذ.
2- إبلاغ نسخة عن هذا القرار من رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل.
3- ردّ كلّ ما زاد أو خالف وإبقاء الرسوم والنفقات على عاتق من عجّلها.
قرارًا نافذًا على أصله صدر في بيروت بتاريخ 2021/3/3.
بيان وزارة الصحّة
صدر عن المكتب الإعلامي لوزارة الصحّة العامة البيان التالي:”إنتشر على مواقع التواصل الإجتماعي قرار صادر عن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت بخصوص إلزام الوزارة بتلقيح أحد المواطنين، ومع أنّ وزارة الصحّة العامة لم تتبلّغ وفقًا للأصول هذا القرار الذي يبدو أنّ التسرّع بنشره يصبّ في خانة المزايدة، تبدي الملاحظات التالية:
أوّلًا- إنّ القرار المذكور صادر بموجب أمر على عريضة دون استطلاع رأي وزارة الصحّة أو موقفها بهذا الخصوص. وهذا مخالف لأبسط قواعد التقاضي خصوصًا في ما يتعلّق بالدولة وإداراتها. ويمكن اعتبار هذا القرار غير قانوني إذ لا يمكن فرض غرامة إكراهية على الدولة وهو قرار مركّب بخلفية إعلامية.
ثانيًا – إنّ القرار الصادر يعتبر تعدّيًا صارخًا على مبدأ الفصل بين السلطات الذي يقوم عليه النظام البرلماني اللبناني وخصوصًا أنّه صادر عن قاض مدني غير مختص، في حين يعود الإختصاص إلى القضاء الإداري، وإنّ النظرية التي استند إليها القرار لإعمال اختصاصه تقع خارج موقعها القانوني السليم.
ثالثًا- في الوقائع، ووفق الخطّة الوطنية التي تعتمد على معياري الفئة العمرية وتاريخ التسجيل فالحالة المرضية، تبيّن أنّه لا يزال أمام المستدعي وقت محدود قبل تحديد موعد تلقيحه، باعتبار أنّه تسجّل بتاريخ 14 شباط أو 25 منه (إسمان متشابهان على المنصّة).
رابعًا- إنّ استناد القرار إلى نصّ المادة 579 من قانون أصول المحاكمات المدنية يقع في غير موضعه القانوني فلا تعدّ على حقوق صاحب العلاقة الذي سوف يتمّ تلقيحه عاجلًا أو آجلًا خصوصًا أنّ وزارة الصحّة العامة تعتمد المنصّة الوطنية الخاصة بالتنسيق مع التفتيش المركزي لتعزيز الشفافية والرقابة.
وإذ تؤكّد وزارة الصحّة العامة أنّها مستمرّة في تنفيذ الخطّة الوطنية للتلقيح متجاوزة بعض العقبات التقنية وتراكم التشويش والتشكيك، تتوقّع من الجهات والإدارات العامة الشريكة مؤازرتها في تحمّل هذه المسؤولية الوطنية خصوصًا أنّ معظم الدول ذات الإمكانات المتقدّمة تواجه الكثير من الصعوبات في هذا المجال.”
“محكمة” – الجمعة في 2021/3/5

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!