أبرز الأخبارمقالات

القاضي أمين بو نصّار وابتسامة الحنان

كتب علي الموسوي:
عرفت القاضي أمين بو نصّار عن قرب وعن كثب، وعايشته سنوات في أهمّ مراحل حياته القضائية وتحديداً بين العامين 1997 و2008، أيّ إلى حين تقاعده، فكان شهماً في التعاطي مع الإعلاميين، لا يوافيهم إلاّ بابتسامة ملؤها الأبوة والحنان والسعي الدؤوب إلى المساعدة حيث يمكن ارتكاب هذا الجرم الإنساني، وهو فعل معي مراراً، ولاسيّما خلال وضعي كتابي “شبكات الوهن- عملاء إسرائيل في قبضة القضاء”، فسهّل لي الحصول على الأحكام الصادرة عن محكمة التمييز العسكرية التي كان يشغل فيها منصب مفوّض الحكومة بلباقة واحتراف وصدق في الانتصار للحقّ العام، أيّ للمجتمع بكلّ عناصره وشرائحه ومدلولاته الوطنية.
ولذلك وقفت إلى جانبه عندما ارتضت السياسة أن يؤول منصب النائب العام التمييزي بالوكالة إلى سواه في فترة تولّي النائب العام التمييزي الأصيل القاضي عدنان عضوم مهام وزارة العدل في حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي بين نهايات العام 2004 والشطر الأوّل من العام 2005، إذ كان يفترض أن يجري انتداب أمين بو نصّار إلى هذا المنصب الرفيع ولو مؤقّتاً، ذلك أنّه كان آنذاك الأعلى درجةً بين زملائه من المحامين العامين التمييزيين، وافتعلت كتابة موضوع عن هذا الأمر في جريدة “السفير” بيّنت فيه بالقانون وبالأعراف القضائية المتوارثة، حقّ هذا الرجل النبيل، ومن أجل التذكير يوماً بأنّ السياسة، وهي مجرمة في التعاطي مع القضاء، حالت دون استلامه لهذا المنصب، كما أنّ فيروس الطائفية المنتشر في ربوع لبنان لا يقبل بالمجتهد أن يكون في المكان المناسب حتّى ولو لم يكن المنصب مسجّلاً باسم طائفته، من دون أن يعني هذا الكلام إنتقاصاً من قدرات القاضية ربيعة عميش قدورة التي ارتضت السياسة أن تكون محلّ عضوم طوال فترته الوزارية.
والحقّ يقال إنّ الوزير عضوم لم يغضب مني على ما قلته بحقّ بو نصّار، ولم يبد استياء على إنصافي لهذا الرجل الذي كان قريباً منه أيضاً، وظلّ يستقبلني مع زملائي في مكتبه برحابة صدر وكأنّ شيئاً لم يُكْتب، مع العلم أنّ بعض وسائل الإعلام المرئي والمسموع كانت قد نقلت مقتطفات من كتاباتي، كما أنّ زملائي في محراب الإعلام القضائي كانوا يتوقّعون، من دون أن يصيبوا، أن يُنزل عليّ القاضي عضوم عقوبة المنع ولكنّه لم يفعل يوماً لإدراكه أهميّة قول الحقّ وتبيان الحقيقة وهو القاضي الأصيل والعارف بأنّ لا سلاح يعلو على كلمة الحقّ التي رتّلها مراراً يوم اعتلى الرئاسة في غير مركز في “القضاء الجالس”.
يمكنني القول إنّ صداقة قويّة نشأت بيني وبين القاضي أمين بو نصّار، ولم تكن يوماً علاقة قاض بصحفي يمضي نصف يومه في ردهات قصر عدل بيروت باحثاً عن الجديد والمثير، وما طرقتُ يوماً باب مكتبه في الطبقة الرابعة من العدلية، إلاّ وكانت ابتسامته الوديعة خيرَ مرحّب بقدومي إليه، فنحكي في كلّ موضوعات الساعة حتّى ولو كانت بعيدة عن عقارب الساعة القضائية التي أثبت أنّه لاعب أساسي في فريقها الجاهز على الدوام، للمهمّات الصعبة والعويصة.
وعادت السياسة وأنصفت بو نصّار، فتركته يستريح في رئاسة محكمة التمييز المدنية، واختاره زملاؤه في محاكم التمييز بالتزكية، خير ممثّل لهم في عضوية مجلس القضاء الأعلى، إلى أن دقّت ساعة الرحيل عن الساحة القضائية بعد اثنتين وأربعين سنة من الخدمة الفعلية والفعّالة فيها.
تهاتفنا مراراً وتحدّثنا عن شؤون القضاء، وكان مفتخراً بأنّ إرثه القضائي سيمضي قُدُماً ومدوّياً في نجله القاضي فارس بو نصّار، وسيستمرّ في ابن شقيقه القاضي طارق بو نصّار.
أحببت أن أخلّد ذكريات صديقي أمين بو نصّار في “بورتريه” يشمل حياته برمّتها، وفاتحته بالأمر، لكنّه اعتذر بلطافته المعهودة، فقدّرت رأيه وإنْ لم يكن محقّاً، لأنّ الغاية هي تظهير صورة مصغّرة ومقروءة عن هذه المسيرة لكي يستفيد منها الآخر ولاسيّما القضاة الشباب.
رحم الله القاضي أمين بو نصّار الطيّب في كلّ ما فعل، والإنساني حتّى الأعماق في زمن قلّ فيه الرجال، وتراجعت الإنسانية.
من هو القاضي بو نصّار؟
من مواليد بلدة رويسة البلوط في الأوّل من شهر تشرين الثاني من العام 1940، بدأ مساعداً قضائياً في قصر العدل في شهر أيّار من العام 1962، ثمّ دخل إلى القضاء بتاريخ 31 تموز من العام 1968، وتنقّل في مراكز مختلفة على الشكل التالي: قاض منفرد في بيروت، مستشار في محكمة جنايات بيروت، مستشار في المحكمة العسكرية الدائمة، رئيس محكمة بداية في زحلة، نائب عام استئنافي في النبطية، محامي عام لدى محكمة التمييز ومثّلها مراراً أمام المجلس العدلي، مفوّض الحكومة لدى محكمة التمييز العسكرية، ورئيس الغرفة الرابعة لمحكمة التمييز المدنية.
إنتخب القاضي بو نصّار بالتزكية من محاكم التمييز عضواً في مجلس القضاء الأعلى في العام 2008 خلفاً للقاضي المتقاعد سهيل عبد الصمد، وأقسم اليمين القانونية أمام رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان ليصبح أوّل قاض يقسم اليمين في عهد سليمان. وأحيل على التقاعد في الأوّل من شهر تشرين الثاني من العام 2008، ووصل إلى الدرجة 22 بحسب الدرجات المعمول بها في القضاء، وهي الأعلى.
تأهّل من السيّدة سلوى بو فخر الدين، وأنجبا الدكتور مكرم الحائز على دكتوراه في الاقتصاد، والقاضي فارس الحائز على ماجستير في الاقتصاد أيضاً، ولمى المتخرّجة في الجامعة الأميركية في بيروت.
ونعى مجلس القضاء الأعلى القاضي في منصب الشرف المرحوم أمين فارس بو نصّار الذي وافته المنيّة صبيحة يوم الجمعة الواقع فيه 29 تموز 2016، مستذكراً “ما كان للفقيد من همّة وتفانٍ ونشاطٍ ومهابة ٍوطيب سيرة وسريرة طوال سِني خدمته”.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 12 – كانون الأوّل 2016).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!