أبرز الأخبارمقالات

المادة 58 من قانون الإيجارات الجديد ومبدأ فصل السلطات

كتب المحامي هادي خليفة:
إنّ كـلام الحكمـاء: إذا كان صوابـاً كـان دواءً، وإذا كـان خطـأ كـان داء(الإمـام علـيّ)
1- مقدّمة:
إنّ النظام السياسي في لبنان هو نظام برلماني ديمقراطي قائم على مبدأ فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية – separation des pouvoirs – والمكرّس في الفقرة – هـ – من مقدّمة الدستور والمؤكّد عليه في الباب الثاني من الدستور الوارد تحت عنوان “السلطات” الذي رسم للسلطة التشريعية مهام صنع القوانينLa puissance législative n’appartient qu’au Parlement qui représente la volonté générale-(F. Terré)
وأناط بالسلطة التنفيذية مهام تطبيق وتنفيذ القوانين، وأولـى السلطة القضائية مهام الفصل في النزاعات والخلافات العالقة أمامها. وهذا الفصل في المهام بين السلطات الثلاث لا يحدّه أيّ قيد لم ينصّ عنه الدستور، كما أنّه يمنع على أيّ سلطة أن تتنازل عن إختصاصها لأيّ سلطة أخرى باستثناء حالة قوانين الإطار – loi cadre – وحالة تفويض البرلمان للحكومة ضمن إطار ضيّق لمهام التشريع في مواضيع محدّدة (على سبيل المثال التشريع الجمركي).
ولمنع التسابق على النفوذ بين السلطات الثلاث، إستكمل المشترع مبدأ فصل السلطات بقاعدة وجوب التعاون بينها مع إبقاء التوازن في ما بينها بهدف منع تدهور الحرّيّات العامة، ولحجب طغيان أيّ سلطة على الأخرى:
Une république démocratique qui ne connait pas la séparation des pouvoirs peut être aussi dangereuse pour la liberté qu’un gouvernement despotique.
Quel que soient les gouvernants, et quel que soit leur mode de désignation la liberté n’est garantie que par les limites que le pouvoir rencontre.
Droit Constitutionnel – Georges Vedel – Sirey ed.1949 p ;21
وإذا كان أساس مسؤولية الحكومة المثول أمام البرلمان لنيل ثقته، فلا يجب أن تكون العلاقة بينهما تشبه وضع المرؤوس برئيسه، وإذا كانت السلطة القضائية مرتبطة بالسلطة التنفيذية، فإنّها تبقى مستقلّة عنها في معرض ممارستها لإختصاصها، وإذا كانت متصلة بالسلطة التشريعية، فهي تبقى ضمن إطار دائرة المادة 20 من الدستور عند سنّ القوانين الخاصة بها. وقد عزّزت هذه الإستقلالية المادة الأولى من قانون أصول المحاكمات المدنية الصادر في العام 1983 التي نصّت على أنّ القضاء سلطة مستقلّة تجاه السلطات الأخرى ولا يحدّ من إستقلالها أيّ قيد لا ينصّ عليه الدستور.
وفي المقابل، على القاضي أن يحكم وفقاً للقانون، وليس له أن يحاكـم القـانون
Juger selon la loi et, non juger la loi (Fabreguettes)
وعند الإقتضاء أن يحكم وفقاً للمبادىء العامة والعرف والإنصاف، ولا يجوز له إصدار أحكامه القضائية في صيغة الأنظمة سنداً للمادة 3 من قانون أصول المحاكمات المدنية،
وإنّ التكامل بين السلطات وتعاونها وتوازنها يخلق الإستقرار والإنتظام في المرفق العام، وإنّ هذا التكامل والانفصال والارتباط يجب أن يبقى متماسكاً وفقاً لمبدأ فصل السلطات وبدون أن يتوسّع عن نطاقه كون هذا المبدأ يشكّل قاعدة سلوكية تهدف إلى حفظ الديمقراطية في دولة القانون، وتصون الحرّيّات،
Dans la démocratie classique, la séparation des pouvoirs n’est pas un principe juridique proprement dit, mais un précepte
d’art politique. (G.Vedel p:157)
1- في المادة 58 من قانون الايجارات ومدى مخالفتها لمبدأ فصل السلطات
بتاريخ 28/2/2017 نُشر قانون الإيجارات النافذ حكماً تحت رقم 2 بعد أن امتنع رئيس الجمهورية(العماد ميشال عون) عن إصداره، وتمّ نشره في العدد 10 من الجريدة الرسمية تاريخ 28/2/2017 سنداً للفقرة الأخيرة من المادة 57 من الدستور.
نصّت المادة 58 من هذا القانون على ما يلي: خلافاً لأيّ نصّ مخالف، يعلّق تطبيق أحكام مواد هذا القانون المتصلة بالحساب المساعدات والتقديمات، كما المراجعات القضائية في الأساس، أو التنفيذ، أو الأحكام التي سبق أن صدرت، والتي تؤدّي إلى تحديد بدل إيجار أو إخلاء المستأجر المعني بتقديمات الصندوق المذكور إلى حين دخوله حيّز التنفيذ.
وقد ورد هذا النصّ نتيجة فقدان قانون الإيجارات السابق الصادر بتاريخ 9/5/2014 والذي تمّت إعادة نشره في الجريدة الرسمية في 26/6/2014 الجودة التشريعية بعد أن أبطل المجلس الدستوري بموجب القرار الصادر عنه تحت رقم 6 تاريخ 6/8/2014 عدداً من النصوص القانونية الواردة فيه لعدم دستوريتها ممّا أدّى إلى تخبّط المحاكم حول مدى إمكانية تطبيق النصوص المتعلّقة باحتساب بدل المثل على ضوء القرار الصادر عن المجلس الدستوري، وأدّى بالنتيجة إلى صدور العديد من الأحكام القضائية عن مختلف المحاكم بصورة متناقضة في معرض الفصل بموضوع احتساب بدل المثل بعد أن عقدت بعـض المحاكـم إختصاصها للبتّ بهذا الأمر بصورة مخالفة لمضمون القانون ولما قضى به المجلس الدستوري في قراره رقم 6/2014.
أدّى هذا التناقض في الأحكام القضائية بالمشترع إلى إصدار نصّ المادة 58 بالشكل الذي ورد فيه، إلاّ أنّ تعليق المادة المذكورة نفـاذ المراجعات القضائية والأحكام القضائية التي صدرت قبل صدور القانون يشكّل تدخّلاً مباشراً من قبل المشترع في عمل السلطة القضائية وإنْ كان الهدف منه رفع الظلم عن فئة من المتقاضين، فإنّ المشترع لا يجوز له ومهما كانت الأسباب التعرّض للأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم، إذ إنّ تكريس هذا الأمر يؤدّي بالنتيجة إلى تحكيم السلطة التشريعية بعمل المحاكم وهو ما يشكّل تعدّياً صارخاً لمبدأ فصل السلطات الثلاث، وهو يشكّل خطراً لا مثيل له في عمل السلطات إنْ تمّ اعتماده كأسلوب في حقل التشريع، وهو يؤدّي حُكماً إلى الفوضى في انتظام الأوضاع القانونية العائدة للأفراد.
وكان يجب على المشترع منعاً من خرقه الدستور والمبدأ الدستوري المكرّس لفصل السلطات الثلاث، الإكتفاء بتعليق نفاذ أحكام القانون العائدة لاحتساب بدل المثل (أيّ الزيادة القانونية على بدلات الإيجار السكنية) لحين اكتمال الهيكلية التنظيمية المولجة الحكومة تأمينها عملاً بالنصوص الواردة في القانون، سواء لجهة إنشاء اللجنة ذات الصفة القضائية وإنشاء صندوق المساعدات للمستأجرين، وهكذا يكون المشرّع وبشكلٍ ضمني قد أقفل باب متابعة إجراءات التقاضي لا سيّما وأنّ القانون عقد اختصاص الفصل بموضوع احتساب بدل المثل على بدلات الإيجار لعقود الإيجار السكنية المبرمة قبل 22/7/1992 باللجنة ذات الصفة القضائية المنصوص عنها في المادة -7- من القانون والتي تمّ تعديل مضمونها عن النصّ السابق الوارد في قانون الإيجارات المنشور في 26/6/2014 إنفاذاً من المشترع للقرار رقم 6/2014 الصادر عن المجلس الدستوري.
2- في التعليق على قرار المجلس الدستوري رقم 3 /2017 – تاريخ 30/3/2017
بعد أن نشر القانون المشار إليه أعلاه ، وفي معرض البتّ بالمراجعة المقدّمة أمامه طعناً بهذا القانون لعدم دستوريته، أصدر المجلس الدستوري القرار رقم 3 /2017 والذي تمّ نشره في العدد 16 من الجريدة الرسمية – تاريخ 6/4/2017 – القاضي بردّ المراجعة في الأساس، بعد أن اعتبر في البند السادس من القرار أنّ المادة 58 منه لا تشكّل خرقاً لمبدأ فصل السلطات ومعتبراً أنّ هذا النصّ لا علاقة له بمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث.
إنّ هذه المخالفة الدستورية من قبل المجلس الدستوري تنذر أنّ هذا المجلس تخلّى عن دوره في مراقبة مدى دستورية القوانين، هذا فضلاً عن إغفاله للثوابت القانونية التي كان كرّسها في العديد من قراراته حول صيانة مبدأ فصل السلطات وتفعيله، إذ سبق للمجلس الدستوري بموجب القرار الصادر عنه بتاريخ 24/11/1999 تحت رقم 2 – المتعلّق بالطعن بالقانون رقم 140/99 تاريخ 27/10/1999 القاضي بصون الحقّ بسريّة المخابرات التي تجري بواسطة أيّة وسيلة من وسائل الاتصال، أن أبطل نصّ المادة 16 من هذا القانون كونه يتعارض مع مبدأ فصل السلطات بعد أن اعتبر أنّه لا يجوز إشراك نوّاب في هيئات إدارية للتحقيق مع أجهزة السلطة الإدارية، وأنّه أمر لا يدخل ضمن صلاحيات النائب الدستورية.
كما سبق أن أبطل المجلس الدستوري القانون رقم 406 الصادر بتاريخ 12/1/1995 المتعلّق بتعديل أحكام قانون تنظيم القضاء الشرعي السنّي والجعفري بموجب القرار الصادر عنه تحت رقم 2/95- تاريخ 25/2/1995 والذي اعتبر فيه أنّ هذا القانون ينطوي على انتقـاص من استقلال السلطة القضائية، ومن الضمانات التي أعطاها الدستور للقضاة والمتقاضين بموجب المادة 20 منه.
كما صدر عن المجلس بتاريخ 27/6/2000 القرار رقم -5- الذي أبطل الفقرة -3- من المادة 64 – من القانون رقم 227/2000 – التي نصّت على رفع يد مجلس شورى الدولة عن متابعة النظر في مراجعات النقض المقدّمة أمامه طعناً بقرارات تأديبية، كونه يشكّل مخالفة لمبدأ إستقلال القضاة،
وقد سبق للمجلس الدستوري في فرنسا ان أصدر بتاريخ 22/7/1980 القرار رقم 80-119 الذي أورد فيــه:
Le conseil constitutionnel met en œuvre le principe de séparation des pouvoirs et consacre l’indépendance des juridictions administratives et judiciaires a l’égard des pouvoirs législatif et exécutif.
… il n’appartient ni au législateur, ni au gouvernement, de censurer les décisions des juridictions, d’adresser à celles-ci des injonctions et de substituer à elles dans le jugement des litiges relevant de leur compétence.
Les grandes décisions du Conseil Constitutionnel- Dalloz- 18e ed. 2016- p :86-
والجدير ذكره أنّ المشترع اللبناني إستقى فكرة إنشاء المجلس الدستوري في لبنان من الدستور الفرنسي، وكرّس في قانون إنشائه (قانون رقم250/93) العديد من النصوص القانونية الواردة في الدستور الفرنسي، ونصّت الفقرة الأولى من المادة 13 من قانون إنشائه المماثلة تماماً للفقرة -3- من المادة 62 من دستور الدولة الفرنسية (ما يعرف بدستور الجمهورية الخامسة)على أنّ القرارات الصادرة عن المجلس الدستوري هي مُـلزمة لجميع السلطات العامة وللمراجع القضائية والإدارية وهي تتمتع بقوّة القضيّة المحكمة force de la chose jugée ،
وهذا الإلزام يسري بالتالي، على المجلس الدستوري ذاته، وإن تغيّر القضاة الذين يتشكّل منهم هذا المجلس، وإنّ مخالفة المجلس الدستوري للمبادىء والقيم الدستورية لا سيّما منها قاعدة فصل السلطات التي هي من أقدم وأهـمّ القواعد الدستورية، وإهماله للقرارات الصادرة عنه، وقوله أنّ نصّ المادة 58 من قانون الايجارات الجديد لا علاقة له بمبدأ فصل السلطات سوف يبيح بدون أدنى شكّ إلى صدور قوانين إعـتدائيـة أخرى كونه يعود له الفضل في هذا المسلـك في التشريع، وهـو يكون أسهـم في إفـراغ قاعـدة:”إنّ الرقابة على دستورية القوانين هي جزء من التشريع” من مفاعيلها، عوض عن سعيه إلى طبعهـا في ذهن مـن يـشرّع.
(نشر في مجلّة “محكمة” – العدد 17 – أيّار 2017).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!