أبرز الأخبارمقالات

حماية المدين في إطار التنفيذ الجبري (دراسة مقارنة)/فيصل مكي

القاضي فيصل مكي*:
لِمَ يجب حماية المدين؟ ولماذا الإطار هو التنفيذ الجبري؟
إنّ البحث موضوع المناقشة هو من المواضيع المهمّة والأساسية في إطار التنفيذ الجبري والتي تُطرح في كلّ زمان ومكان، إذ لا بدّ أن يواجه أيّ عامل في التنفيذ الجبري إشكالية تتعلّق بكيفية التصرّف تجاه المدين أمام حالة واقعية معيّنة، كما يكاد لا يخلو أيّ تعديل تشريعي في العالم يطال التنفيذ من أحكام قانونية تراعي المدين.
إنّ الإشكالية القانونية للبحث هي في كيفية عدم القضاء على المدين في الطريق للحصول على دين الدائن، وهذا الموضوع استحوذ على اهتمام المشرّعين في كلّ العالم وعلى مرّ العصور كما شغل الممارسين في هذا الحقل على أكثر من صعيد.
إنّ التجارب التاريخية أثبت أنّ تحصيل حقّ الدائن دون وجود ضوابط ملزمة أدّى حتّى إلى استعباد المدين المتخلّف عن الدفع، وحتّى من دون وجود رقابة من أيّة سلطة، وهذا ما كان عليه الأمر في العصور القديمة.
لكن بسبب الآثار السلبية لهذه الطريقة وما أدّت إليه من اضطرابات بين العامة، بدأ تخفيف إجراءات التنفيذ الجبري التي تثقل كاهل المدين ثمّ تمّ وضعها تحت رقابة أشخاص مختصين في هذا المجال من أجل ضمان عدم تسلّط الدائن.
ويبدو أنّ تخفيف إجراءات التنفيذ وجعلها أكثر مراعاة للمدين إنطلق بزخم عند البدء بالتفكير بحقوق الإنسان بدءًا من الثورة الفرنسية وثورات التنوّر في أوروبا، وتجلّى بأبهى صوره في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وهل من المصادفة أن ينسحب أنسنة بعض القوانين التي تُعنى بحياة الأفراد والتي تتضمّن طرفًا ضعيفًا، كقانون العمل وقانون الضمان الإجتماعي مثلًا، مع تفشّي ظاهرة حقوق الإنسان!
إنّ المبادئ الأساسية التقنية التقليدية بدت قاصرة عن حماية حقوق الطرف الضعيف في العلاقة، فكان لا بدّ أن يتدخّل المشرّع لفرض واقع يُخرج العلاقة من الإطار التقني التقليدي ويحيطها بعناية خاصة تستبعد سيطرة الطرف القوي على الفريق الأضعف، وعلى هذا لم تسلم قوانين التنفيذ من هذه النزعة.
إنّ مبادئ حقوق الإنسان كالحقّ في الأمان، والحقّ في الحياة الكريمة، والحقّ في الملكية، والحقّ في الحياة الخاصة وجدت تطبيقاتها في مجمل فروع القانون، لكن أكثر ما تجلّت هي في القوانين التي اختلّ فيها التوازن بسبب طبيعة العلاقة أو ما طرأ عليها من ظروف.
ويبدو أنّ عدم القيام بأيّ اعتبار للمدين يجد مرتكزاته في المبدأ الذي شرح دقائقه لاحقًا ماكيافيلي.
الغاية تبرّر الوسيلة، قالها نيكولو ماكيافيلي Niccolo Machiavelli، المفكّر والفيلسوف والسياسي الإيطالي في القرن السادس عشر، في كتابه “الأمير”. صحيح أنّ مقولته هذه أعطاها في العلوم السياسية لكنّها تجد ترجمتها القانونية في حالة الضرورة (الضرورات تبيح المحظورات).
لكن هل يُعقل أن يُترك للمرء حرّية اختيار أيّة وسيلة يريدها للوصول إلى غايته دون أن يكون لهذه الوسيلة معايير وضوابط تحفظ النظام في المجتمع، وتكرّس الأمان للأفراد.
فإذا كانت الغاية هي مثلًا الذهاب من المنزل إلى العمل، فهل يمكن السماح باللجوء إلى أيّة وسيلة في سبيل الوصول إلى المكان المقصود، أم يجب الإلتزام بقانون السير حفاظًا على السلامة العامة وعلى حياة الآخرين؟ وهل يمكن السماح بتعريض حياة الآخرين للخطر لمجرّد أنّ أحد الأشخاص يريد الإنتقال من مكان إلى آخر؟
لهذا وضعت ضوابط لوسائل الإنتقال كي يحصل بلوغ الغاية بالطريقة المثلى وبالقدر اللازم والضروري للحصول على المبتغى والمراد، إذ لا يمكن ترك الأمر بين يدي صاحب الغاية، لأنّه إذا كان بعض الأشخاص يلتزمون بالوسائل الصحيحة والسليمة إلّا أنّ البعض الآخر يبحث عن أيّ طريقة للوصول إلى غايته ولا يبالي بالنتائج مهما حملت وسيلته من مخاطر وأضرار على المجتمع وعلى الأفراد.
ولهذا، وفي مواجهة الغاية تبرّر الوسيلة، جاء الإجتهاد في أواخر القرن التاسع ليستوحي من الفقه نظرية التعسّف في استعمال الحقّ وليطوّر مفهومها القانوني. وقد كان لهذه النظرية التأثير الكبير على جميع فروع القانون، ما حدا بلويس جوسران Louis Josserand في أوائل القرن العشرين إلى القول بأنّ التطوّر الذي أحدثته نظرية إساءة استعمال الحقّ هو انتصار للتقنية القانونية.
التقنية القانونية، وهنا بيت القصيد، هي الأساس في ضبط كيفية ممارسة الحقوق وتطبيق القواعد القانونية بشكل مناسب يتلاءم مع الغاية التي وضعت من أجلها، فهل أنّ الغاية في حصول الدائن على دينه تبرّر اللجوء إلى أيّة وسيلة دون أيّ اعتبار لأيّ حقّ للمدين لا يكون لازمًا لاقتضاء ذلك الدين!
فهنا لا بدّ أن تتدخّل التقنية القانونية وتنتصر لحقوق المدين التي لا علاقة لها بتحصيل حقّ الدائن وتوجب استعمال الحقّ في التنفيذ ضمن الأطر المحدّدة دون أيّ تجاوز للغاية التي وضع من أجلها ودون استعمالها بسوء نيّة.
فإذا كانت إحدى غايات القانون إعطاء الحقوق للأفراد، فهل يمكن أخذ هذا الحقّ بأية وسيلة متاحة، أم لا بدّ من ضبط الوسائل بدقّة ودوزنتها وجعلها متناغمة مع الغاية، فالسرّ هو في التناغم، ولذا جاءت نظرية التعسّف في استعمال الحقّ لتستبدل مقولة “الغاية تبرّر الوسيلة” بمقولة أخرى أكثر إنسانية وحداثة ألا وهي “الوسيلة تتناغم مع الغاية”.
فالمدين ليس في كلّ الأحوال سيئ النيّة يريد التهرّب بشتّى الوسائل من إيفاء الدين، إذ إنّ التجربة العملية بيّنت أنّ العديد من المدينين جارَ عليهم الزمن وواجهوا الكثير من الصعوبات المالية التي منعتهم من إيفاء ديونهم، لذا كان لا بدّ من إيجاد وسائل تقنية حديثة تمنحهم الفرصة لإبراء ذمّتهم بأقلّ الأضرار الممكنة دون التعرّض لما هو غير لازم لذلك ودون المسّ بشخص المدين لأنّ علاقة المداينة هي علاقة بين ذمّتين ماليتين، فمحلّ الضمان ليس شخص المدين وإنّما ماله.
أين نحن من كلّ هذا؛
بالرجوع إلى المنظومة التشريعية اللبنانية ذات الصلة، نجد أنّ المشرّع أخذ بعين الإعتبار، عند وضع قانون أصول المحاكمات المدنية، حقوق المدين بعين الإعتبار إذ وضع ضوابط لكيفية استيفاء الحقّ جبرًا عبر فرض وجود سند تنفيذي وأحاط إجراءات التنفيذ بضمانات تقلّل من المسّ بحقوق المدين التي لا علاقة لها مباشرة بتحصيل الدين، كما نظّم بشكل دقيق إجراءات البيع الجبري لكيلا يحصل هذا البيع كيفما اتفق، وضيّق نطاق الحبس الإكراهي إلى أقصى الحدود.
لكنّ الغوص في الأحكام القانونية الناظمة لإجراءات التنفيذ الجبري، والمقارنة مع القوانين الأجنبية ذات الصلة، يُظهر أنّ القانون اللبناني لا زال تقليديًا في هذا الإطار، إذ لم يتضمّن تقنيات ووسائل حديثة تسمح للمدين بإيفاء دينه بأقلّ الأضرار الممكنة.
فنجد مثلًا أنّ القانون اللبناني لا يتضمّن البيع الحبّي أو الرضائي قبل المزاد، أو الإدارة القضائية للمال المحجوز أو مبدأ التراتبية في الحجوز، أو مبدأ التناسب قبل الحجز بين المال المحجوز والدَيْن المحجوز من أجله، وهي كلّها تقنيات ووسائل ممنوحة للمدين لسداد دينه بأقلّ الخسائر الممكنة.
فالمدين هو جزء من المجتمع، ويجب المحافظة عليه كفرد منتج في الدورة الحياتية والاقتصادية وعدم القضاء عليه أو النظر إليه كعالة على المجتمع أو كفرد يجب التخلّص منه، كما يجب إخراج فكرة التنفيذ الجبري من كونها وحشًا كاسرّا ينقضّ على المدين لسلبه كلّ ما يملك.
وفي المحصّلة، صحيح أنّ عنوان الأطروحة هو حماية حقوق المدين لكن،
يجب أن يكون القانون قانونًا متوازنًا؛ يجب أن يوازن بين حقوق المدين وحقوق الدائن؛ يجب أن يمنح المدين دون أن يفسد ما للدائن؛ يجب أن يحمي طرفًا دون أن يرهق الطرف الآخر؛ يجب أن يُنظّم دون أن يخلّ بالتوازن، لأنّ الصالح العام يتحقّق في الإنسجام والتجانس، ولأنّ الحماية المبالغ فيها والعمياء سوف تنقلب حتمًا على أولئك الذين من المفترض أن تتمّ حمايتهم.
*كلمة تمهيدية خلال مناقشة رئيس دائرة التنفيذ في بيروت القاضي فيصل مكي أطروحة دكتوراه بعنوان: “حماية المدين في إطار التنفيذ الجبري – دراسة مقارنة” نال على أثرها الدكتوراه من المعهد العالي للدكتوراه في الحقوق والعلوم السياسية والإدارية والاقتصادية في الجامعة اللبنانية بدرجة جيّد جدًّا مع التنويه والتوصية بالنشر، وهي أعلى درجة معمول بها في الجامعة اللبنانية. وتألّفت اللجنة الفاحصة من: الدكتور حلمي الحجار رئيسًا، والدكاترة غالب فرحات، وأودين سلّوم، وأحمد إشراقية، وكارول نجم أعضاء.
“محكمة” – السبت في 2021/5/8

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!