أبحاث ودراساتأبرز الأخبار

في التعليق على اجتهاد المحاكم بموضوع سداد الدين بالعملة الأجنبية بالعملة الوطنية/فرانسوا ضاهر

القاضي السابق والمحامي فرانسوا ضاهـر:
(في التعليق على الإجتهاد السائد لدى محاكم الدرجة الأولى والذي يقضي بالترخيص للمدين بإيفاء دين دائنه بالعملة الأجنبية، بالعملة الوطنية على سعر صرفها الأساسي (/1507/ ل.ل./ د.أ.):
1- لقد استند القضاء اللبناني في الترخيص للمدين بإيفاء دين دائنه بالعملة الأجنبية، بالعملة الوطنية قسرًا، إلى المواد 7 و9 و192 ق.ن.ت. التي تعطي قوّة إبرائية للليرة اللبنانية من زاوية سيادة العملة الوطنية على أراضيها.
ولكن لا تمنع التداول بالعملة الأجنبية.
فالمادة 7: تعطي الأوراق النقدية الوطنية وفق تفقيتها، قوّة إبرائية.كما المادة 8: تعطي النقود الوطنية وفق تفقيتها، قوّة إبرائية.أمّا المادة 192 فقد نصّت على: إنّ الإمتناع عن قبول العملة الوطنية بشروط المادتين 7 و8، يعاقب بعقوبة المادة 319 ق.ع..
تلك المادة 319 ق.ع. التي جرّمت الأفعال التي ترمي الى إحداث تدنّي في العملة الوطنية أو زعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها وجميع الأسناد ذات العلاقة بالثقة المالية العامة.
فجرم زعزعة الثقة في متانة النقد الوطني المعاقب عليه في قانون العقوبات، يقابله جرم الإمتناع عن قبول تلك العملة، بحجّة عدم تمتّعها بالقوّة الإبرائية، المعاقب عليه بقانون النقد والتسليف، بحيث أضحى الإمتناع عن قبول العملة الوطنية، لناحية أنّه ليست لها قوّة إبرائية، هو جرم، في حين أنّه ليس بجرم فعل الإمتناع عن التداول بها، بحدّ ذاته، ذلك أنّ المشترع الذي لم يمنع التداول بالعملة الأجنبية، يكون قد أجازه ضمنًا، ويكون بالتالي الإمتناع عن التداول بالعملة الوطنية مشروعًا ولا يشكّل جرمًا.
2- كما استند القضاء المشار إليه إلى حكم المادة 301 م.ع.، فالفقرة الأولى منها وضعت قاعدة تقول: “عندما يكون الدين مبلغًا من النقود، يجب إيفاؤه من عملة البلاد.”
أمّا الفقرة الثانية فقد وضعت تليينًا لتلك القاعدة، بقولها:”وفي الزمن العادي، حين لا يكون التعامل إجباريًا بعملة الورق، يظلّ المتعاقدون أحرارًا في اشتراط الإيفاء نقودًا معدنية أو عملة أجنبية”، بحيث تستند تلك الفقرة الأخيرة إلى شرعة المتعاقدين، أيّ إلى إمكانية التعاقد بالعملة الأجنبية، في حالة محدّدة، يمكن توسيع دائرتها قياسًا لتشمل حالات أخرى مشابهة أو مماثلة أو متفرّعة.
من هنا، يصحّ الإستنتاج بأنّ نصّ المادة 301 م.ع. لا يتعلّق بالإنتظام العام، لأنّه يمكن للمتعاقدين أن يتعاقدوا على ما يخالف الفقرة الأولى.
3- كما أنّه لا يوجد قانون يمنع التعاقد بالعملة الأجنبية، كما في فرنسا إعتباراً من 2016/10/1.
لذلك لا يمكن فهم وتفسير وتطبيق المواد 7 و9 و192 ق.ن.ت. و301 م.ع. على نحو مانع للتعاقد بالعملة الأجنبية.
4- إنّ المتعاقدين الذين تجنّبوا مخاطر العملة الوطنية بالتعاقد بالعملة الأجنبية، لا يمكن للقضاء تعديل إرادتهم بإخضاعهم لتلك المخاطر، وأقلّه إخضاع الدائن لها، وجعل المدين يستفيد منفردًا من ذلك الإخضاع.
5- فعندما كان سعر الصرف ثابتًا وموحّدًا، لم يكن تحويل الدين من عملة أجنبية إلى وطنية مطروحًا. ولم يكن يطالب أحد بهذا التحويل.أما وأن أُعمل ذلك التحويل، لأيّ سبب كان، بالتعاقد أو بواسطة القضاء، فلم يكن يشكّل ضررًا لا على الدائن ولا على المدين.
أمّا بعد انخفاض قيمة العملة الوطنية، فلا يجوز لا قانونًا ولا إنصافًا إعمال هذا التحويل، قسرًا، على نحو يضرّ بالدائن بشكلٍ فاحش، ويفيد المدين بذات المقدار.
6- كما وأنّ اعتماد مبدأ التحويل القسري للدين بالعملة الأجنبية إلى عملة وطنية، يشكّل تجديدًا للموجب بدون موافقة الدائن، الأمر الذي يخالف الإنتظام العام.
7- ولأنّه إذا سلّمنا جدلًا بحقّ المدين منفردًا بتسديد دينه إلى دائنه بالعملة الأجنبية عملة وطنية، أو بالترخيص للقضاء بإتمام هذا التحويل.
-يبقى السؤال على أيّ سعر صرف للليرة اللبنانية، يمكن إتمامه، حتّى لا يكون مجحفًا بحقّ الدائن ومفيدًا للمدين بمقدار هذا الإجحاف؟
– جواب: لم يعد يوجد سعر صرف ثابت وموحّد.
– وإنّ سعر صرف الدولار على /1500/ ل.ل. بات مخصّصًا لحالات حدّدها مصرف لبنان. ولا سيّما:
– لدعم استيراد المواد الإستهلاكية الأساسية والأدوية والمحروقات والأدوات الطبيّة وغيرها.
– ولتسديد ودائع المودعين فوق سقوف محدّدة، ضمن خطّة ترمي إلى تصفيرها بأقلّ كلفة مالية بالعملة اللبنانية على المصارف ومصرف لبنان.
– كما يوجد عدّة أسعار صرف أخرى، كلٌّ منها له وجهة تخصيص معيّنة:/3900/ ل.ل./ د.أ. المحدّد بالتعميم 151، والمخصّص لتسديد الودائع بالدولار الأميركي بالعملة الوطنية لغاية سقوف سحوبات شهرية محدّدة.
/12000/ ل.ل./ د.أ. منصّة ” صيرفة ” التي تمّ استحداثها مؤخّرًا لغاية توفير العملة الصعبة للإستيراد من الخارج.
/23000/ ل.ل./ د.أ. سعر السوق الحرّة المرتبط بالعرض والطلب.
– أمّا الإجتهاد:
– فمنه من حوّل الدين التجاري على /1500/ ل.ل..
– ومنه من حوّل دين أتعاب المحاماة على سعر المنصّة /3900/ ل.ل..
– ومنه من حوّل قيمة الغرامة وكفالة إخلاء السبيل على سعر السوق /23000/ ل.ل..
– ومنه من لم يرتضِ تحويل الدين، عندما يتناول وديعة بالعملة الأجنبية.
– ومنه من حوّل الدين إلى عملة وطنية، وأحال إلى محكمة الأساس كي تحدّد سعر الصرف الواجب اعتماده لإتمام هذا التحويل.
8- أمّا القضاء الذي قضى بالترخيص للمدين بتصفية دين دائنه بالعملة الصعبة، بالعملة الوطنية على سعر الصرف الأساسي المعتمد من مصرف لبنان (1507 ل.ل./ د.أ.) وليس على سعر صرف السوق الحرّة للدولار، إنّما يؤدّي إلى تدمير حقّ الدائنية في لبنان، وإلى ضرب الإقتصاد الوطني عامةً، وإلى إيقاع الدائنين الذين وظّفوا أموالهم بالعملة الصعبة في العسر والتعثّر، والى إحجام المموّلين عن توظيف رؤوس أموالهم في البلد.
كما وأنّ هذا المنحى الإجتهادي مؤدّاه أيضًا، بشكلٍ موارب، إلى الإلتفاف على الحقّ المباح والمشروع بالتعاقد والإلتزام بالعملة الأجنبية، لتلافي المخاطر المحدقة بالعملة الوطنية. إذ يرخّص للمدين، بإرادته المنفردة، تسديد دينه إلى دائنه عند استحقاقه بالعملة الوطنية عنوةً وقسرًا، وأن يعود ويحمِّله مخاطر تدنّي قيمتها، مع ما يشكّل هذا الواقع من ترخيص للمدين منفردًا بخرق شرعة تعاقده الأصلي مع دائنه، ومن ترخيص له أيضًا بالإثراء غير المشروع وبشكلٍ مفرط على حساب دائنه، في حال تدنّي قيمة تلك العملة الوطنية.
9- فضلًا عمّا تقدّم، إنّ هذا الإجتهاد الذي تسير عليه المحاكم اليوم، من شأنه أيضًا أن يدمّر وديعة المودع بالعملة الأجنبية. إذ يفتح الباب على مصراعيه للمصارف لأن تصفّي ودائع عملائها على سعر الصرف الأساسي، في ظلّ عملة وطنية متقهقرة إزاء العملة الأجنبية.
10- هذا، ولا يمكن القضاء الحالي أن يتذرّع بالإجتهاد السابق الذي قضى بهذا الترخيص، لأنّه ارتكز في حينه على الحالة التي كان فيها سعر الصرف للعملة الأجنبية ثابتًا وموحّدًا. أمّا اليوم فلا يمكن الركون إليه، بعدما أصبح سعر صرف العملة الأجنبية متحرّكًا وغير موحّد وغير ثابت، وأضحت العملة الوطنية خاضعة لحالة تدنّي مضطردة ومتواصلة.
11- من هنا، يكون القضاء مدعوًا إلى إتمام تصحيح جذري في فهمه وتطبيقه للمواد القانونية التي ارتكز عليها للسير بمنحاه الإجتهادي الحالي، سيّما وأنّ حسن فهمه وتفسيره وتطبيقه لها يوصل إلى نتيجة سليمة ومنصفة مفادها: أن تسدّد الإلزامات بذات العملة المعقودة بها، وإلّا تليينًا، بالعملة الوطنية على سعر الصرف الحرّ للعملة الأجنبية، تفاديًا لكلّ الآثار السلبية الناجمة عن اعتماد سعر الصرف الأساسي لها وتجاهل سعر صرفها الحقيقي.
12- ولا يردّ على ما تقدّم، بأنّ القضاء يتعامل مع حقّ الدائنية، وفق الوضعية القانونية الخاصة بكلّ حالة على حدة. بمعنى أنّه يعطي لكلّ وضعية دائنية بالعملة الأجنبية حلًّا يتناسب معها، ذلك أنّ هذا المنحى الإجتهادي هو مخالف للإنتظام العام، لأنّ قانون الموجبات والعقود، كما القوانين العامة، وضعت نظامًا قانونيًا موحّدًا لحقّ الدائنية (لجهة استحقاقه وإيفائه وتقادمه وغير ذلك)، دونما أيّة تفرقة، إستنادًا إلى مصدره أو سببه، على اعتبار أنّ البحث في مصدره أو في سببه أو في علّة نشأته، يرتبط بمدى صحّة توجّبه من عدمه، ولا يتعلّق إطلاقًا بالعملة التي يتمّ فيها إيفاؤه. أيّ ما إذا كان معقودًا بالعملة الأجنبية وكيف يتمّ إيفاؤه بالعملة الوطنية ووفق أيّ سعر صرف لها.
كما وأنّ اعتماد الإجتهاد نظام إيفاء خاصًا بكلّ دين بالعملة الأجنبية، إستنادًا إلى مصدره أو سببه، يكون قد ابتدع تمييزًا لم يجزه له المشترع، وخالف النظام الموحّد الذي وضعه ذلك المشترع لإيفاء حقّ الدائنية، وأقحم أصحاب الحقوق في استنسابية الأداء القضائي، الأمر الذي يشكّل مخالفة لقواعد الإنتظام العام وخطًأ جسيمًا في عمل هؤلاء القضاة.
13- كما وأن يعتمد القضاء سعر الصرف الأساسي (1507 ل.ل/ د.أ) دون سواه الذي هو سعر الصرف الثابت والموحّد في الظروف العادية. وأن يُهمل أسعار الصرف المتعدّدة التي نشأت عن الظروف الإقتصادية والمالية والمصرفية الراهنة، وأن يشكّل اعتماده له ضررًا بليغًا وغبنًا فاحشًا للدائن لمصلحة المدين دومًا، بهذا القدر من الإثراء غير المشروع لهذا الأخير، إنّما يفيد أنّ هذا القضاء هو متحيّز عمدًا لمصلحة المدين، ويستبيح هدر حقّ الدائن قصدًا، مخالفًا بذلك القواعد القانونية الوضعية، كذلك شرعة المتعاقدين، كما قاعدة الإنصاف.
في حين، أنّه كان يتعيّن عليه أن يُحسن تطبيق القانون ويَعدُل، فيعتمد سعر صرف متداولًا ومعمولًا به، فيُنصف به الدائن ويُلزم المدين بإيفاء ما التزم به من دين، على نحو لا يضرّ بشكلٍ فاحشٍ بدائنه، ويشكّل إثراءً ونفعًا فاحشًا له.
“محكمة” – الخميس في 2021/7/22
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية ودور النشر والمكتبات منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتبادل أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!