مقالات

قراءة في قرار”إتهامية بيروت” بشأن الصلاحية المكانية للملاحقة في الإثراء غير المشروع/أنطوان نعمة

المحامي أنطوان نعمة:
قد تفرق بيني وبين القضاة خصومة في اختلاف وجهات النظر، ولكن تجمع بيني وبين القانون كلمةٌ سواء.
نحن أمام قانون استثنائي صدر على صيغته النهائية في العام الأخير من القرن العشرين، وهو استثناء من قانون عادي يرسي القواعد والمبادىء العامة الجوهرية في الملاحقة والتحقيق والحكم والأصول الجزائية.
أمّا الادعاء، فقد صدر عن نيابة عامة استئنافية في جبل لبنان مباشرةً أمام قاضي التحقيق في بيروت بحقّ موظّف عام لم يتمّ الإستحصال على إذن مرجعي خاص بشأن ملاحقته، ولقد تمّ ترك المدعى عليه من قبل قاضي التحقيق الأوّل بالإنابة في بيروت وأعيدت الأوراق للنائب العام الاستئنافي في بيروت الذي نظر القرار وأرسله إلى آمر فصيلة بعبدا محلّ نظارة الإحتجاز إلاّ أنّ النائب العام المدعي في بعبدا استأنفت قرار الترك أمام الهيئة الاتهامية في بيروت التي ردّت الاستئناف شكلاً سنداً لانتفاء الصلاحية المكانية كما تبيّن لها.
والسؤال الذي يطرح نفسه ولا يمكن تلافيه ما وجه الحقّ من الباطل بالنظر إلى حيثيات القرار والفقرة التقريرية الاتهامية فيه؟
بالعودة إلى قانون الإثراء غير المشروع، تنبئنا المادة الثامنة منه على نحو صريح لا لبس فيه بالخروج على القواعد والمبادىء العامة والجوهرية في الملاحقة التي تقتضي الترخيص المسبق لملاحقة الموظّف العام، غير أنّ المادة التاسعة منه تؤكّد وجوب التزام القواعد العامة في الأصول الجزائية، وهي إذ ترسي القاعدة واجبة الاتباع مع مراعاة نصوص القانون الاستثنائي، إلاّ أنّها تستتبع في المادة العاشرة التالية لها أنّ التملّص من قاعدة الصلاحية المكانية وأنّ الادعاء يتمّ مباشرة من النائب العام الاستئنافي الذي يستجمع مستندات ثبوتية للجريمة التي تشكّل إثراءً غير مشروع سواء تمّ الأمر بشكوى تقدّم له مقطوعة برسم ملحوظ (٢٥ مليون ليرة لبنانية) أو عفواً من تلقائه على أنّه في كلّ حال يتمّ الإدعاء بصرف النظر عن ماهية الجرم مبنى الإثراء غير المشروع أمام قاضي التحقيق في بيروت وتأتي المادة السابعة عشرة في السياق الاستثنائي نفسه لتولي اختصاص المحاكمة لمحكمة استئناف الجزاء في بيروت، وكلّ ما سبق بنصوص صريحة مُحْكَمة لا تقبل التأويل ويعتدّ بها للخروج على القواعد العامة والأصول الجوهرية المتواضع عليها نصّاً والمجمع عليها فقهاً واجتهاداً.
وفي الغوص إلى أعماق قرار الهيئة الاتهامية الذي ردّ شكلاً استئناف النائب العام الاستئنافي في بعبدا لقرار الترك، جملة مآخذ يتصدّرها أنّ الفقرة التقريرية الإتهامية وما انتهى إليه القانون كتبت أوّلاً ومن ثمّ بُنيت عليها الحيثيات التي خالفت بداية قاعدة العمل الموازي parallélisme des formes
حيث إنّ قاضي الأصل قاضي الفرع، ومن ادعى فله أن ينظر، أو أن يستأنف، فكيف إذا محضّته النصوص وفقاً لقواعد التفسير، الصلاحية؟ ذلك أنّ قانون الإثراء غير المشروع من القوانين الإجرائية للملاحقة والتحقيق والحكم في قضايا الفساد والإفساد وتسييب المال العام ويتعيّن أن يحصر في ما نصّ عليه، وأن يتمّ شرحه على متنه، وأن لا يقبل نصّه الصريح أيّ تأويل وهو محكم في اشتراع بيّن وصريح في مدلوله يكفي العباد والبلاد شرّ المماطلة في الملاحقة دون طائل وتحوير الغاية منه في الحفاظ على الأموال العمومية واستعادة ما تمّ نهبه منها بفعالية قصوى لا تقبل وجهاً من وجوه العرقلة المقصودة أو غير المقصودة والله أعلم.
وما يمكن أن نجده في قرار الهيئة الاتهامية، أنّه صادر على المطلوب من قاضي التحقيق مرجع التحقيق الوضعي الذي كان عليه ردّ الاستئناف شكلاً لو ثبت لديه عدم الاختصاص الجزائي المكاني لتعلّقه بالإنتظام العام ووجوب إثارته عفواً، كما أنّ قرار الهيئة الاتهامية عينه حاول من باب “فقه اللغة مدخل إلى فقه القانون” أن يتوسّع في تفسير قانون استثنائي من باب تكييف لفظ “للنائب العام” على اعتبار أن لا إطلاق فيه وجنوحها غير الموفّق وفقاً لقواعد الدؤلي والفراهيدي وسيبويه والكسائي والأخفش والأصمعي إلى وجوب إيراد التعبير على النحو التالي”للنوّاب العامين” وفي محاولة تفسير الواضح وافتئات على سطوع غاية المشترع الذي ضمّن صريح نيّته في نصوصه اللاحقة في القانون عينه، حيث حسم في التعبير عن إرادته بإناطة صلاحية المحاكمة المطلقة مكانياً بمحكمة استئناف الجزاء، وعليه فقد اختطّ في الإثراء غير المشروع نظاماً خاصاً للملاحقة والتحقيق والحكم يخفّف من وطأة القواعد العامة والجوهرية على نحو يتسق مع تحقيق الصالح العام في إيلاء مكافحة الفساد بالفعالية القصوى التي تتخطّى الزمان والمكان في ظرفها وتبنّي استقرار الدولة والمعاملات على أساس متين مقاوم للزلال والهزّات.
وممّا يلفت في هنات التعليل التي اعتورت القرار المبحوث تعليقاً، الذهاب إلى قياس الصلاحية الإستثنائية على الصلاحية العامة، كأن يتمّ قياس صلاحية النائب العام الاستئنافي في الإثراء غير المشروع الإستثنائي على صلاحية النائب العام المالي في قانون الأصول الجزائية العادي، وفي ذلك خطأ جوهري في مقارنة الإستثناء مع الأصل ينتج عنه اختلاط المعايير وتحوير الغاية التي بُني من أجلها الإستثناء وهي تحقيق الفعالية القصوى في المحافظة على الأموال العمومية.
وفي المحصّلة، لا يفوتنا أنّ بذل العناية موجب عام ملقى على عاتق أهل القانون على اختلاف مواقعهم حفاظاً على النظام العام واستقرار المعاملات بما يكفل المساواة أمام القانون، وتالياً أمام القضاء الذي ولا بدّ أن يسهر بعناية الأب الصالح على حسن سير المحاكمات وتطبيق القانون فيها وصون حدود العدالة.
(نشر هذا المقال في النسخة الورقية من مجلّة “محكمة” – العدد 49 – كانون الثاني 2020)
“محكمة” – الجمعة في 2020/1/10

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!