أبرز الأخبارعلم وخبرمقالاتميديا

كيف يتحمّل القضاء مسؤولية فرار السجناء؟!/علي الموسوي

كتب علي الموسوي:
كلّما حصل فرار موقوفين وسجناء من نظارة أو سجن صغير أو كبير في لبنان، تنتعش الذاكرة للإستفاضة في الحديث عن أزمة اكتظاظ السجون بأعداد ضخمة، لا بل مهوّلة من الأشخاص المحكومين، والمنتهية محكوميتهم، والموقوفين بجرائم مختلفة، وبما يفوق قدرات الزنازين وسعتها الإجمالية، وبما يتعدّى الغاية المتوخّاة من هذا التدبير العقابي لتنتفي العملية الإصلاحية لدى شريحة واسعة من هذه الفئة البشرية ونصبح أمام مجموعة عصابات جديدة أو أفراد يستمتعون في الخروج عن القانون متى تسنح لهم الفرصة، سواء أكانوا خلف القضبان أو طلقاء في مدى الحرّية.
جوقة الإزعاج
وما ان تحصل عملية فرار موقوف أو عدد من السجناء حتّى تبادر “جوقة الإزعاج” من سياسيين وناشطين إلى تذكّر مسألة اكتظاظ السجون، ويتناولونها بكثير من الإستخفاف لمجرّد التصريح والحكي والكلام الفارغ غير المثمر، من دون معاجلة فعلية وفورية، ثمّ يغيب الأمر عنهم إلى أن تعود حكاية الفرار من جديد.. وهؤلاء يستحقّون أن يكونوا مكان الفارين ولو ليوم واحد لكي يثابروا على تذكّر طعم الزنزانة وتأثيرها المباشر على انعدام الحرّية، لعلّهم بذلك يقومون بخطوة جريئة تنهي شمّاعة الإكتظاظ من الجذور.
وبطبيعة الحال لا تتحمّل قوى الأمن الداخلي وحدها مسؤولية فرار السجناء وإنْ كانت مولجة بتأمين الإدارة والحراسة والحماية، فثمّة مسؤولية ملقاة على عاتق القضاء الجزائي بدءاً من النيابات العامة ومروراً بقضاة التحقيق وانتهاء بمحاكم الجنايات المعنية بالنظر في الملفّات والدعاوى المعروضة عليها والمكدّسة لديها، وقد تصل إلى حدّ إهمال الدعوى، وبالتالي الموقوفين فيها، ونسيانهم لأسباب متعدّدة تنضوي تحت عنوان كبير اسمه العدالة البطيئة والمتأخّرة.
التوقيف الإعتباطي
ولم يعد مسموحاً استمرار النيابات العامة باختلاف تسمياتها من استئنافية ومالية وعسكرية وطبعاً الحديث هنا يشمل بعض القضاة وليس كلّهم، في التمسك بعقلية التوقيف الإعتباطي وفي جرائم لا تستحقّ التوقيف أصلاً، إذ بات من الضروري تغيير هذه الذهنية التي عفا عليها الزمن واستبدالها بإجراء آخر يتماشى مع الجرم المقترف، فليست كلّ الجرائم تستحقّ الحبس، أو التوقيف الإحتياطي، ويمكن التمييز بين أنواع الجرائم لضرورات التخفيف من اكتظاظ السجون بحيث يوقف المجرمون المتأصّلون وأصحاب السجّلات العدلية الشائنة، والمعتادون على تكرار أيّ فعل جرمي وكأنّه هواية لديهم، ويستعاض عن توقيف الآخرين ذوي الأفعال الجرمية الخفيفة والبسيطة بتدابير قانونية أخرى كمنعهم من السفر إلى حين انتهاء دعوى كلّ واحد منهم والبتّ فيها سلباً أو إيجاباً.
وليس مسموحاً أن تدعي النيابة العامة بجرم لا يتعلّق بتاتاً بالواقعة، كالإدعاء في حادث سير بمحاولة قتل.
“ترويج” التهرّب من المسؤولية
كما أنّه لم يعد مقبولاً أن “يتأربط” قاضي التحقيق بموقوف بجرم صغير مثل متعاطي المخدّرات الذي تدعي عليه النيابة العامة بجرم الترويج بعد العثور على سيجارتي حشيشة معه، ويصرّ على ردّ طلبات إخلاء السبيل متهرّباً من مسؤوليته وملقياً تبعة التوقيف على الهيئة الاتهامية بإصدار قرار ظنّي يتمسك فيه بنظرية الترويج من دون دليل، ولمجرّد الشبهة وبعض قضاة التحقيق للنكد والنكايات، وتتهرّب الهيئة الاتهامية نفسها في بعض الأحيان، من تحمّل تبعة إخلاء السبيل لأنّ الملفّ يتعلّق بمخدّرات، وهي كلمة مزعجة ومنفرّة، إلى أن يصل الملفّ إلى محكمة الجنايات وتتثبّت بعد مدّة زمنية قد تطول لغاية السبعة شهور من أنّ فعل هذا الموقوف هو تعاطي المخدّرات وليس ترويجها، فتعلن براءته للشكّ وعدم كفاية الدليل، ويكون قد أمضى شهوراً من التوقيف الإحتياطي نتيجة عقلية التوقيف وضعف بعض قضاة التحقيق.
ولم يعد مسموحاً أن ينزعج قاضي التحقيق من “تمزيق” الهيئة الاتهامية قراره الظنّي وتغيير الوصف الجرمي بشكل”انقلابي”، ويلجأ كردّة فعل إلى النيابة العامة لتمييز القرار الاتهامي، وهذا ما فعله قاضي تحقيق في ملفّ تعاطي مخدّرات، إذ استاء من صدور القرار الإتهامي بغير ما رمى إليه، مع إخلاء سبيل أشخاص أوقفهم ظلماً وعدواناً، وبدلاً من إعمال ضميره والركون إلى ما آلت إليه نتيجة القرار الاتهامي حرّض النيابة العامة الاستئنافية على الطعن بالقرار أمام محكمة التمييز التي انتصرت للقرار الإتهامي، فسكت والتزم الصمت المطبق.
ولم يعد مقبولاً، أن تتمّ إطالة التوقيف الإحتياطي لغاية صدور الحكم، وفي ظلّ وجود إسقاط شخصي مثلاً، في جرم طفيف يمكن أن يكون جناية قابلة للتحوّل إلى جنحة لوجود خطأ في الادعاء أو إعطاء النيابة العامة المسألة أكثر من حجمها الطبيعي، وعدم انتباه قاضي التحقيق، وهو قاضي ظنّ، إلى الأمر بالشكل المطلوب.
كما أنّه ليس من المنطق أن يحصل الاستجواب التمهيدي لأيّ موقوف بعد مرور شهور على استلام محكمة الجنايات الملفّ، وهذا الإستجواب الروتيني يتعلّق بسؤالين صغيرين وشكليين عن وجود محام وتعريف المتهم “كجرعة تذكيرية”، بما هو منسوب إليه، ولا يخوض في أصل وتفاصيل الدعوى ومتفرّعاتها.
وهناك موقوفون كثر وبالجملة لم تقم محاكم الجنايات المنتشرة على المحافظات كافة بإجراء الإستجواب التمهيدي لهم، ولا يمكن للقضاة أن يتذرّعوا بكثرة الملفّات لديهم وعدم قدرتهم على الفصل فيها بالسرعة المطلوبة، كما أنّه لا يحقّ لهم أن يتحجّجوا بعدم حصول عملية السوق لمرّات متعدّدة، بينما يهبّون كالنار المشتعلة عندما يكون الملفّ لشخص موصى به وينتظرون حصول عملية السوق، ولو اضطرّوا إلى المكوث وقتاً إضافياً في مكاتبهم. أمّا التذرّع بجائحة “كورونا” فساقط ما دام الإستجواب الإلكتروني وعن بُعْد، متوافراً.
ولم يعد مقبولاً أيضاً، أن تحكم محكمة جنايات في جرم معيّن بعقوبة خمس سنوات وتحكم محكمة جنايات مجاورة لها، لا بل في المحافظة نفسها، بعقوبة سبع سنوات في الجرم نفسه، والملفّ لا يختلف إلاّ بالأسماء. وهذا مؤشّر على وجوب اختيار القضاة الأكثر مراساً في الملفّات الجنائية.
تعنّت
ولم يعد مقبولاً أن يتعنّت رئيس محكمة جنايات ويصرّ على إبقاء شخص قيد التوقيف الإحتياطي سنتين ومن دون محاكمة في جريمة ثأرية ومن دون وجود أيّ دليل حسّي وملموس على ضلوعه فيها، والأنكى من كلّ ذلك أن هذا الموقوف يكون عنصراً أمنياً، وبالتالي من السهل في حال تبيان خيط رفيع على تورّطه، إعادة توقيفه، علماً أنّ الملفّ خال تماماً من شبهة واحدة عليه. والأفظع من كلّ ذلك أنّه بسبب تعنّت القاضي وهذا التوقيف المضرّ، يجري طرد هذا العنصر من وظيفته، فأين هي العدالة يا أهل العدل؟
وفي موازاة ذلك، يُنقل ملفّ جريمة قتل من محافظة إلى محافظة بما فيه من عدد كبير من الموقوفين، فتسرّع محكمة الجنايات المحاكمات وتعقد جلسات متواصلة ومتقاربة زمنياً حتّى إحقاق الحقّ ليقين هيئتها من القضاة بعد تدقيق وإمعان نظر في سطور الملفّ، أنّ بعض الموقوفين لا علاقة لهم البتّة بالجريمة، وهذا ما توّجته في نهاية المطاف بحكمها فأعلنت براءتهم، ولكن من يتحمّل مسؤولية توقيف هؤلاء سنتين؟ ومن ينزع “سادية” التشجيع على التوقيف لدى قضاة؟
أقوى من القضاء
ولم يعد مقبولاً أن يتمّ توقيف المواطن العادي والصغير وغير المدعوم سياسياً وغير المحسوب على هذا وذاك من الزعماء والقيادات السياسية والطائفية، فيما يسرح السارق الحقيقي والناهب الفعلي للمال العام ولأموال الناس، ويصول ويجول من شاشة تلفزيونية إلى شاشة أخرى، مطلقاً العنان لأفكاره النيّرة في الحفاظ على المال العام وضرورة إجراء التدقيق الجنائي لكشف اللصوص وهو أحدهم، ولا يتحرّك القضاء لتوقيفه، أو مساءلته أو استجوابه، لأنّه وبكلّ بساطة، هو أقوى من القضاة والقضاء، وهو فوق القانون، والأمثلة في هذا المضمار كثيرة ويعرفها القاصي والداني ولا داعي لإعادتها على المسامع وكتابتها من جديد، لأنّها باتت سيمفونية ولازمة ملّها اللبنانيون الذين أصيبوا بالقرف والإشمئزاز والكآبة من هذه الصورة المخزية للعدالة الحقّة.
ولئلاّ يكون الفرار الجماعي بديلاً عن عفو عام “ضائع”، أو مختلف عليه بين السياسيين هواة الإستفادة منه وتعويم مصالحهم على حساب مصالح الناس والوطن والسجناء أنفسهم، لا بدّ للقضاة من تسريع خطوات المحاكمات وتخفيف التوقيفات في الجنح والجرائم البسيطة، واتخاذ الإجراءات المناسبة والبديلة لئلاّ يتحوّل كلّ سجن وكلّ نظارة إلى قنبلة موقوتة يصعب على الدولة تحمّل وزرها عند انفجارها خصوصاً في ظلّ عدم قدرة قوى الأمن الداخلي تحديداً، على تأمين الحراسة والحماية اللازمة والمطلوبة لكلّ نظارة وسجن وقصر عدل ومحكمة!
“محكمة” – الثلاثاء في 2020/11/24

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!