أبرز الأخبارعلم وخبرميديا

ماذا لو استمرّت غادة عون في عصيان قرار عويدات؟/علي الموسوي

كتب علي الموسوي:
بعدما حقّقت غادة عون ما عصى على قاض جزائي ومدني آخر في الجمهورية اللبنانية من شعبوية غير مسبوقة تحت عنوان إصلاحي يتمثّل بمكافحة الفساد المصرفي تحديدًا، مع ما يعنيه المال للناس”من زينة الحياة الدنيا”، وتفوّقت على مجلس القضاء الأعلى بحشد جمهور واسع وكبير من الرأي العام ومن مختلف الطوائف والآراء والأفكار حتّى صارت بالنسبة إليه المنقذ من طغمة الفساد المستشري، بات السؤال المركزي ماذا لم استمرّت غادة عون في عصيان القرار الصادر عن رئيسها المباشر النائب العام التمييزي القاضي غسّان عويدات بتغطية علنية من مجلس القضاء الأعلى وتحت مظلّته القانونية؟
وأكثر استطرادًا، ماذا لو رفضت عون تنفيذ قرار عويدات السابقة في تاريخ القضاء بكفّ يد نائب عام استئنافي؟ وماذا لو رفضت عون أن تعطي القضاة الثلاثة الخاضعين في التسلسل الهرمي الإداري لها في النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان سامي صادر وسامر ليشع وطانيوس السغبيني كلّ الملفّات الموجودة بحوزتها والتي دأبت على النظر فيها والتحقيق فيها وهي لا شكّ ملفّات دسمة تدخل بلغة القانون، في إطار الجرائم الهامة؟
وما هو وضع العدلية أمام الرأي العام راهنًا ومستقبلًا في ما لو ضغطت السياسة لكسر قرار عويدات، والعدلية في الأصل تفتقد إلى أوكسجين الثقة؟
وهل عويدات ومعه مجلس القضاء الأعلى في وارد التراجع عن القرار المتفجّر، والهيبة بما تعنيه لا تحتمل أيّ تلاعب أو زعزعة أو اهتزاز، لأنّ سقوطها قد يترك تداعيات خطرة على مفهوم العدالة الحقّة، ويؤسّس لظواهر أخرى مشابهة في المستقبل القريب أو البعيد، إذ صار بإمكان أيّ قاض أن يتذرّع بما فعلته غادة عون، وأن يخرج على مجلس القضاء شاهرًا أسبقيات عون، وإذا ما طُلب منه نيل إذن مسبق بالكلام أو بالإدلاء بحديث ما في معرض أمر ما، فقد بات بمقدوره أن يقول وبالفم الملآن:”أسكتوا غادة عون”!
وهل “الترقيع” على الطريقة اللبنانية المعتادة هو لمصلحة القضاء والقانون هيبة ومكانة وحضورًا؟
وهل التغاضي عمّا تفعله عون سواء أكان من منطلق ذاتي “ومن رأسها” أو بناء على تعليمات طرف ما، وتركُها تمعن في تصرّفاتها هو لمصلحة القضاء، أم تحطيم متدرّج للنيل من عنفوانه وإسكات له، وتكريس لحالة قد تصبح مثالًا يحتذى؟!
كلّها أسئلة مشروعة وحسّاسة وتستدعي التأمّل والتفكّر، والإجابة ليست سهلة على الإطلاق كما يتوهّم بعض الناس، لأنّ الأمر لا يتعلّق بأشخاص معيّنين، وإنّما بالقضاء برمّته، بوجوده واستمراريته، مع ما يعنيه هذا القضاء من ميزان أساسي لقيام دولة المؤسّسات والقانون حتّى ولو واصلت السلطة السياسية مكابرتها بعدم الإعتراف العملي والفعلي والملموس والحسّي والواقعي بأنّ هذا القضاء يفترض أن يصبح سلطة مستقلّة قادرة على محاكمة الرئيس والمسؤول والمستشارين والمحسوبيات والسماسرة، والمتخم والجائع، والغني والفقير على حدّ سواء، ومن دون التفاف ودوران، ومن دون أيّ تحايل على القوانين المطّاطة والفضفاضة والتي وجدت في الأصل لتحمي الكبار، إذ إنّ المشرّع في أغلب الأحيان هو من طبقة هؤلاء الكبار الذين يظنّون أنفسهم خارج المساءلة والمحاسبة والملاحقة والمحاكمة، والأمثلة كثيرة في هذا المضمار.
مسؤولية القضاء
إنّ القضاء نفسه مسؤول عن ظاهرة غادة عون.
كيف ذلك؟
لو أنّ النيابة العامة المالية ثبّتت قدميها في ميدان مواجهة حيتان المصارف ومافيا المال والفاسدين في ظلّ الإنهيار الشامل للعملة الوطنية، ولم تستقل من وظيفتها القانونية المنصوص عليها بصراحة في المادة 19 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، لما دخلت عون على ملفّات تخرج عن صلاحيتها، ولما فكّرت في الإلتفاف على النصّ بدسّ جرائم وعناوين أخرى لما هو مالي كالقول بوجود تزوير مثلًا، لكي تجعل من نفسها صاحبة اختصاص.
ولو أنّ هيئة التفتيش القضائي تحرّكت منذ البدء ومنذ الشكوى الأولى وشرعت في محاسبة عون وأحالتها على المجلس التأديبي للقضاة، لما تجرأت هي نفسها غادة عون الظاهرة على مواصلة رحلة الخروج على القوانين المرعية الإجراء بالنسبة لعمل القضاة والهيكلية القضائية المعتمدة.
ولمن لا يعرف، فإنّ رئيس هيئة التفتيش القضائي هو القاضي الأوّل والأهمّ في لبنان والذي لا يمكن إقالته بعكس رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس مجلس شورى الدولة والنائب العام التمييزي الذين يمكن للسلطة السياسية وفي أيّ وقت، أن تقيلهم من مناصبهم، والدليل ما حصل في السنوات الأخيرة مع القضاة عدنان عضوم وجان فهد وشكري صادر، فأنّى لمن لديه هذه القوّة المدعومة بالقانون ألّا يتحرّك لمساءلة قاض؟ وممن يخاف؟ ولماذا الخشية؟ وأكثر من ذلك، فإنّ موقفًا من هذا النوع بمحاسبة عون إنْ كانت تستحقّ الملاحقة أمام المجلس التأديبي للقضاة، كافٍ بحدّ ذاته لدخول التاريخ من بابه الواسع، مع أنّ العدلية لا تحتمل أيّة “عراضات” لأنّ القانون هؤاؤها، ولأنّ قدس تطلّعاتها إنزال العدل مكانه الصحيح.
وأيضًا، لو أنّ مجلس القضاء الأعلى وضع منذ البدء حدًّا نهائيًا لتصرّفات غادة عون ما دام أنّه يرى أنّها تخالف القانون وتعصي أوامر رئيسها الذي هو نائب رئيس هذا المجلس، وترفض توجيهاته، ولا تلتزم بقراراته، وتنتقد المجلس نفسه، لا بل تهاجمه علنًا وفي وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الإجتماعي وتصدر بيانات لتردّ على من يهاجم أسلوبها في التحقيق، ومنطقها الإستفزازي في بعض الأحيان، لما استطاعت أن “تفتح على حسابها” كما يقال.
وباختصار شديد، تخلّى كلّ هؤلاء عن ممارسة دورهم ووظيفتهم، أو هادنوا لتمرير الوقت، فاغتنمت غادة عون الفرصة الذهبية وحلّقت في عالم الشعبوية ومن باب لا يمكن لأحد أن يعترض عليه، قصدتُ مكافحة “مافيا” المال تحديدًا، ففَتَحتْ ملفّات ظلّت عصيّة على القضاء بقرار سياسي واضح، وتغافلت النيابات العامة التمييزية والمالية والإستئنافية عنها، أو غفت، والنتيجة سيّان، ليس اليوم وحسب، وإنّما طوال سنوات عديدة مضت إلى أن حصل الإنفجار الكبير وفقدت الليرة اللبنانية قيمتها الشرائية، وبات اللبناني أكثر من أيّ وقت مضى واقفًا على رصيف الهجرة، حتّى أنّ التململ وصل إلى شغاف قلوب شريحة لا بأس بها من القضاة باتوا بدورهم ينتظرون بديلًا ينقذهم من كلّ هذا الوضع الإقتصادي والإجتماعي والمعيشي والحياتي المهترئ.
تصرّف ذكي
لا شكّ أنّ غادة عون غلبت مجلس القضاء الأعلى والنيابة العامة التمييزية في الجولة الأولى من هذه المنازلة، أيّ في مواجهتها لقرار إقصائها عن موقعها وكفّ يدها، وذلك بنزولها إلى الأرض، مع ما يعنيه هذا التصرّف الذكي من استثارة الناس الموجوعة والمفجوعة، وترؤسها عمليات دهم مقرّ شركة ميشال مكتّف للصيرفة في محلّة عوكر في قضاء المتن الشمالي، بما تمثّله من تجمّع مالي ومركز ثقل شحن العملة الأجنبية إلى خارج الأراضي اللبنانية.
ولا شكّ أنّ اختيار غادة عون من تلقاء نفسها، أو بإيعاز ما من خارج القضاء بطبيعة الحال، لشركة مكتّف المالية تعتبر خطوة موفّقة بامتياز، لأنّها تكون قد لعبت على وتر حسّاس وحاكت وجع الناس وتجرأت ومسّت من يُصنّف في ذهن هؤلاء الناس، وفيه بعض المبالغة، على أنّه أحد أسباب خسارة ودائعهم المالية، ولا يستطيع أيّ مسؤول في الدولة اللبنانية الوقوف في وجه الشعب متّى قرّر هذا الأخير التحرّك والإنتفاضة والتمرّد لتحصيل أحد حقوقه، وهو لن يسكت على سرقة أمواله الخاصة وإنْ التزم الصمت إزاء نهب الأموال العامة طوال سنوات وسنوات.
عصبية طائفية
وعندما كلّف مجلس القضاء الأعلى في اجتماعه التاريخي يوم الثلاثاء الواقع فيه 13 نيسان 2021، القاضيين عويدات وبركان سعد باتخاذ أيّ قرار بحقّ عون ضمن الأصول القانونية المرعية الإجراء يكون له طابع معنوي، فإنّ هذا التكليف صدر بإجماع القضاة الثمانية سهيل عبود، وعويدات، وسعد، وسهير الحركة، وروكز رزق، وهيلانة اسكندر، وماهر شعيتو، واليان صابر، ولم يعترض أحد، ولم يهدّد أحد لا بالإنسحاب ولا بالإستقالة، ولا بالإعتكاف، لأنّ كيل الجميع طفح من ممارسات عون التي لا تتوافق مع بيدر القانون ومكانة القضاء.
والقول باعتراض القضاة المسيحيين الحاضرين مقابل تشديد القضاة المسلمين على وجوب صدور قرار عقابي، في استثارة بغيضة للعصبية الطائفية، ليس صحيحًا على الإطلاق، فالجميع كان متفقًا ومشجّعًا على حماية العدلية قبل أيّ أحد، وقبل الشخص، والبقاء دومًا هو للمؤسّسات وليس للأفراد حتّى ولو كانوا أفذاذًا و”عتاعيت” ومن الطراز الرفيع.
معالجة مؤسّساتية
لقد حاولت وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم أن تستدرك قدر المستطاع ما شاهده اللبنانيون بأمّ العين من “ضرب لصورة القضاء وسمعته” بحسب بيانها الذي دعت فيه إلى اجتماع طارئ وعاجل وضروري وهام عقدته يوم السبت الواقع فيه 17 نيسان 2021 في مكتبها في الوزارة، وحضره رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، والنائب العام التمييزي القاضي غسّان عويدات، ورئيس هيئة التفتيش القضائي بركان سعد.
ويُفْهم من هذا الإجتماع أنّه جاء كمحاولة حثيثة لمعالجة ما حدث، داخل المؤسّسة القضائية نفسها وبمفهوم المؤسّسات الذي يفترض أن يعلو على أيّة معالجة “ترقيعية” خارج نطاق العدلية، علمًا أنّه كان يتوجّب على هؤلاء الأربعة أن يبادروا قبل استفحال الأزمة إلى معالجة حالة غادة عون قبل صدور قرار عويدات بإلغاء دورها المحوري على رأس النيابة العامة الإستئنافية في جبل لبنان، وذلك من خلال التصدّي لجملة مخالفات قانونية صدرت عن عون وكانت محور نقاش قضاة ومحامين ورجال قانون وموضع استغرابهم منذ حلولها في مركزها في تشكيلات العام 2017.
الحلّ
لا يعني اللبنانيين أنّ هذا الإجتماع كان عاصفًا وشهد نقاشات حادة تمظهر في وجوه الأربعة الممتعضة والمكفهّرة وإنْ كانوا محقّين في ما حملته نفوسهم أيضًا من علامات عدم رضا. ما يعني اللبنانيين هو الإجابة على السؤال الجوهري: ماذا لو استمرّت غادة عون في عصيان قرار عويدات؟
الحلّ بسيط ومتصوّر ويتجسّد بإحالة هيئة التفتيش القضائي عون على المجلس التأديبي للقضاة والطلب من وزيرة العدل وقفها عن العمل بناء على المادة 90 من قانون القضاء العدلي(المرسوم الإشتراعي رقم 150 تاريخ 1983/9/16) كما حصل مع القضاة داني شرابيه ورامي عبدالله وحسام النجّار ومنذر ذبيان وعماد زين في عهد وزير العدل السابق القاضي ألبرت سرحان، وأفلت بيتر جرمانوس من هذه العقوبة الإستباقية بحماية سياسية واضحة من القصر الجمهوري قبل أن تستقبله نقابة المحامين في بيروت على جدولها العام محاميًا ممارسًا على “تويتر”!
ولكنْ من يجرؤ؟ وهل يفعلها بركان سعد وماري كلود نجم وهما على مشارف ترك العدلية، الأخيرة بمجرّد تشكيل حكومة جديدة، والأوّل في الأوّل من شهر تموز 2022؟
لننتظرْ ونرَ.
“محكمة” – الأحد في 2021/4/18
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً على أيّ شخص، طبيعيًا كان أم معنويًا وخصوصًا الإعلامية منها، نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، كما يمنع نشر وتبادل أيّ خبر بطريقة الـ”screenshot” ما لم يرفق باسم “محكمة” والإشارة إليها كمصدر، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!