مقالات

واجب العقوق والجحود وتطبيقاته على ملفّ القاضي عون: ما لها وما عليها/باسكال ضاهر

المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر*:
بدايةً، من المفيد إعادة التذكير بما ورد على لسان المحامي الفرنسي الأستاذ Robert Badinter في خطابه بعد قسم يمين استلامه منصب رئاسة المجلس الدستوري الفرنسي وكان متوجّهًا به إلى الرئيس François Mitterrand قائلًا : ” M. François Mitterrand, mon ami, merci de me nommer président du Conseil constitutionnel, mais sachez que dès cet instant, envers vous, j’ai un devoir d’ingratitude. ”
بمعنى أوضح أنّه يتوجّب على القاضي أن يطبّق واجب العقوق والجحود تجاه من عيّنه بغية تمكّنه من تحقيق خدمة العدالة التي ينشد تطبيقها، أيّ عليه أن يبتعد عن محاباة تلك الجهة السياسية وأن لا يأسر نفسه إليها في اتخاذه لقراراته، لأنّه حين يساوي بين العدالة وبين من عيّنه يكون قد أسقط سيف الحقّ من يده، علمًا أنّ السيّد Badinter هو أحد كبار الحقوقيين في فرنسا ويعود إليه الفضل بإزالة عقوبة الإعدام وكان قد شغل عددًا من المناصب الوزارية في فرنسا منها وزارة العدل.
ما تقدّم هو واجب يفترض أن يحوزه كلّ قاض لتمكينه من إتمام مهامه بشكل مستقلّ بغية إحقاق الحقّ لا سيّما وأنّ العدالة بمفهومها هي عمياء، أيّ أنّ سيفها مرفوع بوجه كلّ ظالم ومعتدي، الأمر الذي يؤول إلى اعتبار أنّ الإنتقائية في فتح الملفّات القضائية وفق ما هو واضح يصبح في علم القانون رديف اللاعدالة، ومن هذا المنطلق وبرأيي يرتكب القاضي جريمة الخيانة العظمى في كلّ مرّة يردّ بها على اتصال من جهة سياسية؛ لأنّ الأساس هو فصل السلطة القضائية عن السياسية وليس الإمعان بجعلها واقعة ضمن علاقة التابع لمتبوع، وبالتالي لن يستقيم الوطن طالما عماده قضاء غير مستقلّ، مع العلم والتأكيد أنّ الإستقلالية لا تستجدى وهي ليست بحاجة إلى نصّ يشرّعها، بل إنّ أساس وجودها يجب أن يكون في نفس كلّ قاض،
سندًا لما تقدّم، يمكننا القول إنّ ما حصل ويحصل مؤخّرًا غريب جدًّا ولا يمكن فصله عن التحرّكات السياسية، وهنا تقع الخطورة بالموضوع إن في الشكل أو المضمون، فمن الناحية القانونية البحتة يتعلّق الأمر بمدى صلاحية المدعي العام لدى محكمة التمييز ولو كان مكلّفًا من قبل مجلس القضاء الأعلى أن يصدر قرار عزل قاض بخلاف الأصول المنصوص عليه في المادة ٩٥ من قانون التنظيم القضائي، أو أن يصدر قرار كفّ يده بشكل بدلي عن هيئة التفتيش القضائي المولجة بذلك بحكم النصّ وضمن الأصول المحدّدة في متنه، أو أن يحلّ مكانه لا سيّما في تطبيق أصول المادة ١٢ أصول جزائية (توزيع الأعمال على المحامين العامين ضمن دائرة المدعي العام الإستئنافي) ؛ ومن هذه الأسس يقتضي التفريق بين سلطة التوجيه المحفوظة للمدعي العام لدى محكمة التمييز المذكورة في متن المادة ١٣ أصول جزائية وبين سلطة الحلول التي اتبعت وهي غير منصوص عليها، ولذا نرى أنّه ما حصل مؤخّرًا يعتبر عقوبة مقنّعة (مراجعة قرار مجلس شورى الدولة في قضيّة السفير غصن) لا سيّما أنّ صلاحية المدعي العام لدى محكمة التمييز تنحصر بتوجيه المدعي العام بالتعليمات الخطّية أو الشفهية المتعلّقة بتسيير دعوى الحقّ العام؛ وسندًا للنصّ يكون هذا القرار قد تعدّى أطر التعليمات في توجيه دعوى الحقّ العام ودخل ضمن نطاق فرض عقوبة مقنّعة، ومن المعلوم أنّ لا عقوبة بدون نصّ والأهمّ لا عقوبة بدون محاكمة؛ فأين حصلت المحاكمة؟
وأكثر، فإنّ هذا القرار سندًا لمبدأ الموازاة بين الصيغ والإجراءات هو غير مشروع؛ وعليه، إذا كان مدعي عام بعبدا قد خالفت تعليمات المدعي العام التمييزي فلهذا الأخير أن يطلب إحالتها أمام الهيئات الرقابية وليس أن يجرّد موقع النائب العام الاستئنافي من صلاحياته المحفوظة له بموجب النصّ،
علمًا أنّه كان قد جرى تعديل المادتين 13 و14 من قانون أصول المحاكمات الجزائية بحيث عادت صلاحية إجراء التحقيق إلى النائب العام التمييزي لكن دون أن يكون له حقّ الإدعاء، فيما عادت صلاحية حسم الخلاف بشأن ملاحقة الموظّفين العامين إلى النائب العام التمييزي بدلًا من محكمة الإستئناف المدنية، أمّا الأمر الراهن فيتعلّق بمدى صلاحية المدعي العام لدى محكمة التمييز إصدار قرار كفّ يد نائب عام استئنافي والحلول مكانه لا سيّما في تطبيق المادة ١٢ أصول جزائية؛ ومن هذه الأسس يقتضي التفريق بين سلطة التوجيه المذكورة في متن المادة ١٣ وبين سلطة الحلول التي اتبعت وهي غير منصوص عليها،
هذا ومن ناحية أخرى ووفق اعلان بوردو ٢٠٠٩ (بالرغم من عدم انضمام لبنان إليه إلّا أنّه يبقى معيارًا للوصول إلى سلطة قضائية مستقلّة وفاعلة) يصبح أيّ تدخّل في عمل النيابة العامة الاستئنافية هو غير مشروع على الإطلاق لأنّ المادة ٧ منه أشارت بحرفيتها (إلى تحقيق استقلالية المدعي العام الاستئنافي إنْ عن الجهة السياسية أو الداخلية أيّ جعلته محصّنًا).
وبالتالي وللأسباب التي وردت نصل إلى نتيجة مفادها أنّه لا يجوز قانونًا كفّ يد مدعي عام حين مباشرته التحقيق لا سيّما أيضًا أنّ الملفّ ما زال في مرحلة التحقيق أيّ مرحلة القضاء الواقف وما زال هناك مرحلة القضاء الجالس أيّ الدفاع والحكم، كما وأنّه تطبيقًا وتفعيلًا لواجب الجحود يمسي من غير الجائز والغريب بمكان أن يقوم المدعي العام الاستئنافي في بعبدا بفتح ملفّات بصورة إنتقائية مساقة ضدّ فئة سياسية معيّنة دون الأخرى،
والسؤال الأبرز ضمن هذا السياق الذي يطرح على بساط البحث ومنه تنطلق عدد من التساؤلات المحقّة هو: لماذا لم يتحرّك التفتيش القضائي سابقًا؟ علمًا أنّ ملفّ التجاوزات موجود بحوزته؟ هل لأنّ التدخّلات السياسية حالت دون ذلك؟
وبالنهاية عسى أن نصل إلى سلطة قضائية متحرّرة من براثن الإنتماء والتبعية لأنّ الوطن لن ينهض إلّا بسلطة قضائية مستقلّة في النفوس قبل النصوص، وبأن تسقط الحصانات كافة أمام سيف سلطانها، علمًا أنّ ما يجري هو ثمرة علّة عدم الإنتماء للوطن.
*متخصّص في الرقابة القضائية على المصارف المركزية وأجهزة الرقابة التابعة إليها. ونشر هذا المقال في صحيفة “النهار”.
“محكمة” – السبت في 2021/4/24

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!