أبرز الأخبارعلم وخبرمقالاتميديا

ثغرات و”محسوبيات” في التشكيلات القضائية/علي الموسوي

كتب علي الموسوي:
لا يختلف إثنان في “القضاء العاقل” على أنّه يحقّ لوزيرة العدل الدكتورة ماري كلود نجم بحكم القانون، أن تقول كلمتها في مشروع التشكيلات القضائية، لا أن تكون”ساعي بريد” كما عبّرت في إحدى تغريداتها على حسابها على”تويتر”، أو أن تكتفي بالتفرّج إزاء ما خطّه مجلس القضاء الأعلى في سطور مشروع هذه التشكيلات من معايير متناقضة كما يتبدّى للوهلة الأولى من المواقع والأسماء المسرّبة، حيث يظهر كما يُفهم من المناقشات الدائرة بين القضاة أنفسهم أنّ هناك من يستحقّ المركز الذي آل إليه، وأنّ هناك من شعر بالغبن والإجحاف والتزم الصمت، مقابل آخرين ذهبوا بعيداً في رفع صوت الاستنكار ملوّحين بالإستقالة مستندين إلى دعم سياسي فاضح، دون أن ننسى أنّ هناك أسماء غير جديرة بما أعطيت من نعمة إمّا لعدم كفاءتها وإمّا لوجود شكاوى عليها في هيئة التفتيش القضائي التي يعيب عليها قضاة أنّها لا تأخذ دورها بالشكل المطلوب!
واغتنمت الوزيرة نجم عطلة يومي السبت والأحد بعد ساعات قليلة على تلقيها كرة نار التشكيلات من مجلس القضاء قبل ظهر يوم الجمعة الواقع فيه 6 آذار 2020، وأمعنت النظر فيها تدقيقاً وتمحيصاً ووضعت سلّة ملاحظات جدّية من أجل تسهيل ولادة هذه التشكيلات الأولى في عهد القاضيين سهيل عبود وغسّان عويدات والوزيرة نفسها ورئيس الحكومة حسّان دياب، والثانية في عهد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بعد واحدة أولى في 10 تشرين الأوّل 2017 جعلت وزير العدل الأسبق سليم جريصاتي يقبض على عدد لا بأس به من مواقع القرار في العدليات إنطلاقاً من مفهومه الخاطئ والخاص به لتسييل عبارته الشهيرة “وزير الأداء القضائي” ممّا جعل القضاء أكثر ارتهاناً للسياسة، فيما المنطق يقول بإعفاء القضاء من هذه المهمّة الشائكة والتي تخرج عن دوره في إحقاق الحقّ.
وتؤكّد المادة الخامسة من قانون تنظيم القضاء العدلي بشكل واضح لا لبس فيه، أنّ التشكيلات القضائية لا تصبح نافذة إلاّ بعد موافقة وزير العدل، وفي حال حصل خلاف في وجهات النظر بين الوزير المعني ومجلس القضاء الأعلى يعقدان جلسة مشتركة للنظر في النقاط المختلف عليها والعمل معاً على تذليل العقبات، وفي حال استمرار الخلاف والتناقض في المواقف، فإنّه يتوجّب على مجلس القضاء الأعلى أن يقرّ التشكيلات بأغلبية سبعة من عشرة لكي تصبح نهائية وملزمة، وهو أمر لم يحصل في السابق.
“تطيير” تشكيلات
وإذا ما نشب خلاف قوي كان يجري تفجير التشكيلات عبر نشرها في وسائل الإعلام للحؤول دون صدورها، كما فعل وزير العدل الأسبق شارل رزق في العام 2007، فبقيت العدليات تعمل بموجب مرسوم التشكيلات الرقم 13653 تاريخ 26 تشرين الثاني 2004 الممهور بتوقيع الوزير والقاضي عدنان عضوم لغاية العام 2009 حيث حلّ الوزير ابراهيم نجّار مكان رزق على رأس وزارة العدل وصدر مرسوم التشكيلات الرقم 1465 تاريخ 6 آذار 2009، وأتبعه نجّار بالتعاون مع مجلس القضاء الأعلى بعد سنة ونصف السنة بالمرسوم الرقم 5079 تاريخ 1 تشرين الأوّل 2010.
كما جرى تجميد تشكيلات قضائية في عهد الوزير شكيب قرطباوي بين العامين 2011 و2014 بفعل الضغوطات السياسية التي صبّت لمصلحة قضاة كانوا يهيمنون على مراكز مختلفة لعلّ أبرزها في النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، ولا يريدون تركها لسواهم، خصوصاً وأنّ إقصاءهم قضى بتعيينهم مستشارين في محاكم التمييز، وهو ما اعتبر إسقاطاً لما تمتّعوا به من هيبة ونفوذ!
ولم يكن عهد أشرف ريفي بين العامين 2014 و2016، أفضل حالاً، إذ وئدت تشكيلاته في صيف العام 2016 بعد تداولها عبر خدمة تطبيق “واتساب” فوصلت إلى الناس أجمعين، ممّا أدّى إلى دفنها علناً في وضح نهار مشمس، علماً أنّ مناقلات جزئية صدرت في مطلع ولاية ريفي بموجب المرسوم الرقم 11896 تاريخ 23 أيّار 2014 وطاولت أعضاء محاكم الدرجة الأولى ومستشارين في مختلف محاكم الاستئناف في بيروت والمحافظات، وقضاة منفردين في بيروت والأقضية.
لكلّ طائفة محكمتها!
وشاركت هذه المناقلات بما حملته من انتدابات في إرهاق المحاكم، قبل أن تتبلور أكثر فأكثر في مرسوم التشكيلات الرقم 1570 تاريخ 10 تشرين الأوّل 2017 والذي استحقّ وصفها بتشكيلات قضائية بألوان سياسية وصلت إلى حدّ سلوك طريق الطائفية الحادة وتكريس المواقع باسمها من دون وجه حقّ وبما لا يأتلف مع العدالة المتوخّاة.
فهل يعقل أن يكون لكلّ طائفة محكمتها ودائرة تحقيقها ونيابتها العامة في القضاء العدلي، ومن غير المسموح على الإطلاق تعيين قاض من طائفة أو مذهب آخر في مكان تتمسك به طائفة أو مذهب آخر حتّى ولو كان أكثر كفاءة ونزاهة وقدرة على تسيير هذه المحكمة؟
التوبة والغفران
قد يكون مفهوماً لأسباب طائفية في بلد مثل لبنان، أن تغنم الطوائف بعض المواقع الرئيسية كالنوّاب العامين الاستئنافيين وقضاة التحقيق الأُوَل، وأن تتقاسمها في ما بينها، وأن تحتكرها وترفض التنازل عنها وكأنّها ماركة مسجّلة باسمها، لكنّه من غير المسموح أن ينسحب هذا الواقع المرير على بقيّة المراكز كالقضاة المنفردين ومحاكم الدرجة الأولى والاستئناف والتمييز، وأن يشارك قضاة في هذه المعصية خشية إثارة نفوذ البطريرك، أو المفتي، أو المطران، أو الشيخ، ولا يعود من قدرة على تقبّل التوبة مع أنّ الله غفور رحيم، علماً أنّ هؤلاء الأربعة ليسوا هم من يدخلون إلى الجنّة، وإنّما الأعمال!
ويمكن تغيير طائفة النائب العام أو قاضي التحقيق الأوّل في هذه المحافظة أو تلك بقاض آخر من طائفة أخرى ضمن تناوب منظّم كما كان في السابق.
فقد كنا نجد أرثوذكسياً في مركز قاضي التحقيق الأوّل في بيروت، وسنياً نائباً عاماً استئنافياً في بيروت، وشيعياً في مركز قاضي التحقيق الأوّل في جبل لبنان، ودرزياً في مركز قاضي التحقيق الأوّل في الجنوب، كما أنّنا كنا نرى مارونياً نائباً عاماً استئنافياً وفي مركز قاضي التحقيق الأوّل في جبل لبنان في آن معاً مثلما حصل في المرسوم الرقم 8636 والمرسوم الرقم 11237 الصادرين في 12 ايلول 2002، و24 تشرين الأوّل 2003 على التوالي، وقس على هذا المنوال والأمثلة كثيرة، وفي كلّ المحافظات ومن كلّ الطوائف.
التشكيلات لبيروت وجبل لبنان
وما دام مجلس القضاء الأعلى كريماً كحاتم الطائي في بعض الأحيان، في استحداث مراكز ومحاكم ودوائر تحقيق، إرضاء لرئيسه وأعضائه وبعض جهات السلطة السياسية، فلماذا لم يبادر إلى تفعيل وزيادة عديد المحاكم ودوائر التحقيق والنيابات العامة في محافظات بعلبك – الهرمل، وعكّار وكسروان، ومساواتها بالمحافظات الأخرى التي يقلّ بعضها عنها مساحة ونسبّة سكّانية، أم أنّ مجلس القضاء يسير على هدي الدولة اللبنانية في إهمال وحرمان بعلبك الهرمل وعكّار ويعتبرها من الملحقات التي لا تستحقّ انتشار العدل فيها؟!
وما دامت التشكيلات القضائية محصورة بمحافظتي بيروت(العدلية والمحكمة العسكرية) وجبل لبنان(بعبدا وجديدة المتن)، وهي الأكثر إثارة لرغبات قضاة وتطلّعاتهم، فليتمّ إلغاء بقيّة قصور العدل والمحاكم في محافظات الشمال والبقاع والجنوب والنبطية، ولتصنّف هذه المناطق “خارجة على القانون” لأنّ هناك قضاة يزعجهم الذهاب إلى هذه المناطق، أو أنّ “بريستيجهم” لا يسمح لهم الإنتقال إلى هذه المناطق ولو ليومين في الأسبوع!
مثال العدالة البطيئة
وهل يعلم مجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي أنّ هيئة محكمة الاستئناف في بعلبك على سبيل المثال لا الحصر، وهي هيئة اتهامية واستئناف جنح ومدني(أيّ 3 بواحد) تجتمع ثلاثة أيّام في الشهر الواحد؟ فكيف والحال هكذا، ألاّ تتكدّس الملفّات لديها؟ وأنّى للعدالة ألاّ تكون بطيئة؟ ومن الأسباب الجلية إنتداب المستشارين الإثنين فيها إلى مكانين آخرين، وتحميلهما ما لا طاقة لهما على تحمّله!
مراكز “مطوّبة”
ومن خلال إعادة قراءة مضامين مراسيم التشكيلات القضائية الصادرة في السنوات العشر الأخيرة، يتضح أنّ هناك أسماء لا “تتزحزح” من مكانها وكأنّ المراكز “مطوّبة” لها، ولا تريد أن تفسح في المجال أمام آخرين لتجربة حظّهم وإبراز مخزونهم العلمي والقانوني في ما قد يطرح عليهم من ملفّات وما يصادفهم من دعاوى وقضايا، وبالتالي فإنّ ما نسمعه في هذا الوقت بالذات من أصوات رافضة لمشروع التشكيلات القضائية يصبّ في إطار احتكار المواقع ورفض الإنتقال إلى مراكز أخرى، وبعضها أثبت فشله ولم يكن على قدر الآمال المعقودة عليه، وما ادعاء مكافحة الفساد إلاّ تغطية لهذا الفشل، وهو ظهر بشكل علني في ما قام به من خطوات وقرارات لا تتوافق مع القانون، فتعاملت المحاكم الأعلى درجةً معها بالصورة القانونية المطلوبة.
محسوبيات
ومن خلال الأسماء المسرّبة والتي تفرّدت “محكمة” بنشرها، ثمّ تناقلتها كلّ وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة والالكترونية والمسموعة عنها ومنها من التزم بأخلاقيات المهنة فذكر المصدر ومنها من تغاضى لامتهانه السرقة الأدبية، يظهر جلياً أنّ مجلس القضاء لم يبال بمعياري الدرجة والأقدمية في تصنيفه للقضاة وللمراكز، فقدّم قضاة على آخرين مراعاة “لبعض المحسوبيات” بحسب تعبير قضاة لا يتردّدون في استخدام هذه العبارة التي يفترض ألاّ يكون لها أيّ دور في ميزان العدليات والتشكيلات!
غادة عون
وروّج بعضهم على مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيق “واتساب” صورة للقاضي غادة عون مرفقة بعبارة رئيسة محكمة التمييز العسكرية من دون أيّ سند قانوني صحيح، ذلك أنّ مرسوم التشكيلات القضائية لا يتضمّن هذا الموقع على الإطلاق، وهو ما ينمّ عن جهل مطبق لكيفية توزيع المراكز القضائية.
والحقيقة أنّ الرئيس الأوّل لمحاكم التمييز الذي هو رئيس مجلس القضاء الأعلى يقوم بعد صدور مرسوم التشكيلات، بانتداب قاض من بين المستشارين في محاكم التمييز سواء أكان أصيلاً أو إضافياً لتأدية مهام رئيس محكمة التمييز العسكرية، وهو موقع لا يوازي على الإطلاق رئاسة محكمة التمييز كما يتخيّل لا بل يتوهّم بعضهم.
وعندما تقول القاضي غادة عون إنّه أطيح بها لأنّها تكافح الفساد، فهذا يعني اتهاماً غير مباشر لمجلس القضاء بالتواطؤ مع الفساد والفاسدين، فكيف يقبل القاضيان سهيل عبود وغسّان عويدات بهذا الكلام الذي يفترض تحريك التفتيش القضائي لمساءلتها ومحاسبتها وإنْ كانت تعتقد أنّها فوق القانون وهذا ما أوحت به أفعالها منذ تعيينها في العام 2017 نائباً عاماً استئنافياً في جبل لبنان وعدم قبولها بقرارات رئيسها المباشر عويدات ورئيس مجلس القضاء عبود؟
كما أنّ وضع غادة عون استقالتها بتصرّف رئيس الجمهورية وليس في يد مجلس القضاء كما تقتضي الأصول، يعني ضرباً لاستقلالية السلطة القضائية، وهي تبدو كمن يستجلب التدخّل السياسي إلى عقر دار العدلية وإنْ كانت لا تبدو بعيدة عنه ومنه.
لا استهداف لـ”قضاة العهد”
وليس صحيحاً ما يقال عن أنّ مشروع التشكيلات القضائية يستهدف من أُطلقت عليهم تسمية “قضاة العهد”، في سابقة في تاريخ القضاء بهذا النفور والأسلوب الفجّ، وإنْ كانت توجد شكاوى لدى هيئة التفتيش القضائي بحقّ بعضهم لأسباب مختلفة وليس هنا المجال للحديث عنها. ولا يغيب عن بال أحد أنّ بعض هؤلاء القضاة نالوا مراكز متقدّمة في تشكيلات العام 2017، فيما كان يوجد من هم أعلى منهم في الدرجة وفي الكفاءة أيضاً.
وقد نقل على سبيل المثال، قاضي التحقيق العسكري مارسيل باسيل إلى مركز مستشار في محكمة الاستئناف، وقابله تعيين زميلته سمرندا نصّار في مركزه، فأين هو الاستهداف السياسي للتيّار الوطني الحرّ؟ وكذلك الأمر عند الحديث عن آخرين يحكى عن قربهم من هذا الزعيم السياسي أو الحزب السياسي.
فارق الدرجات
وفي المقابل، كيف يختار مجلس القضاء القاضي سامر ليشع ليكون نائباً عاماً استئنافياً في جبل لبنان وهو في الدرجة 14 ويصبح في 17 تموز 2020 في الدرجة 15، ويوجد 12 قاضياً من دورته القضائية من طائفته المارونية إضافة إلى 61 قاضياً مارونياً من دورات سابقة على دخوله القضاء في 8 شباط 1999، أعلى منه في الدرجة وبأشواط؟
وما فعلته السياسة مع القاضي سهيل عبود بتعيينه رئيساً لمجلس القضاء الأعلى متجاوزاً عشرة قضاة موارنة أعلى منه في الدرجة، ليس مقياساً لكي يعتمده هو وبقيّة أعضاء مجلس القضاء في المناقلات والتشكيلات التي يفترض أنّها قضائية بحتة.
وكيف يُعيّن قاض توجد عليه شكاوى في التفتيش القضائي، رئيساً لمحكمة “في المنفى”، ويوجد أيضاً، ما يزيد عن خمسين قاضياً من طائفته أعلى منه في الدرجة؟
تفاوت
وكيف يعيّن قاض ترأس محكمة ابتدائية سنتين ونيّف، رئيساً لمحكمة استئنافيةفي بيروت، فيما من هو أعلى منه درجات وأكثر مراساً وخبرة في محاكم الاستئناف، يظلّ مكانه ولا ينقل على الأقلّ، إلى محكمة موازية في محافظة أخرى؟
والأمثلة في مضمار التفاوت في الدرجات وعدم اعتمادها كمقياس مهمّ في توزيع المراكز، كثيرة ولا تعدّ ولا تحصى، ولا يتسع المجال لذكرها كلّها، ونعود إليها بالتفصيل المملّ عند صدور مرسوم التشكيلات.
وفي المحصّلة، إنّ أيّ تشكيلات قضائية لن تكون مثالية بالشكل المطلوب، وبالقدر الكافي المرغوب، ولا توجد عدالة في القضاء وبين المتولّين شؤون الحكم بالعدل بين بعضهم بعضاً في هذه التشكيلات وسابقاتها، والمهمّ بقاء العدليات ملجأ الناس لنيل حقوقهم، ومهما كانت الإغراءات والضغوطات والتدخّلات من هنا وهناك.
“محكمة” – الخميس في 2020/3/12
*حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية، يمنع منعاً باتاً نسخ أكثر من 20% من مضمون الخبر، مع وجوب ذكر إسم موقع “محكمة” الإلكتروني، وإرفاقه بالرابط التشعّبي للخبر(Hyperlink)، وذلك تحت طائلة الملاحقة القانونية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!