مقالات

قصّة المساعي الأميركية لإطلاق الفاخوري

روبرت أوبراين، مستشار الأمن القومي الأميركي الذي عيّن خلفاً لجون بولتون، كان مسؤولاً عن ملفّات الأميركيين المعتقلين أو المفقودين أو المختطفين في العالم. وهو الذي تولّى المفاوضات مع سوريا بواسطة لبنان، لأجل إطلاق سراح أحد الأميركيين الذي تولّى اللواء عبّاس ابراهيم نقله. وهو الذي استمرّ في البحث عن مفقودين أميركيين في سوريا والعراق واليمن.
أوبراين، بعد عشرة أيّام على توقيف عامر الفاخوري في لبنان، أجرى اتصالات بوسطاء لبنانيين، وأبلغهم أنّ الملفّ بحوزته، وأنّه تبلّغ قراراً رفيعاً ببذل كلّ الجهود من أجل تحقيق “فكّ احتجاز” الفاخوري الذي قال أوبراين إنّه “مواطن أميركي يلاحق بتهم سياسية لا أساس قانونياً لها.”
لم تمض أيّام، حتّى كانت الأجهزة المعنية في الولايات المتحدة الأميركية قد استنفرت جميعها. حتّى أنّ مسؤولاً في وزارة الخارجية قال لزائر لبناني “يبدو أنّ الرجل مهمّ أكثر ممّا نعتقد”. ويومها، تولّى وزير الخارجية بومبيو ومساعدون له من ديفيد هيل إلى ديفيد شنكر إلى السفارة في بيروت العمل بصورة متواصلة، وكانت التعليمات بأنّ المطالبة بإطلاق سراح الفاخوري “بند دائم” على جدول أيّ اجتماع يعقد مع المسؤولين اللبنانيين.
في هذه الأثناء، كانت الأجهزة الأمنية الأميركية تتحرّك في بيروت بعيداً عن القنوات الدبلوماسية. وقرّرت القيام باتصالات جانبية مع “شخصيات لبنانية تربطها صلات قوية بحزب الله”. والغرض “البحث في إسقاط تحفّظ الحزب بعدما تبلّغ الأميركيون من مسؤولين رسميين في لبنان أنّ القرار غير ممكن من دون موافقة الحزب.”
وحسب المعلومات، فإنّ الخطّة الأميركية توزّعت على ثلاثة محاور:
الأوّل رسمي، وتولّته وزارة الخارجية، ويعتمد على اتصالات مباشرة مع رئيس الجمهورية ميشال عون ووزير الخارجية جبران باسيل والمستشار الرئاسي سليم جريصاتي.
الثاني أمني وعسكري، وتولّته السفارة الأميركية في بيروت وممثّلون عن الأجهزة الأمنية الأميركية وشمل قيادة الجيش ومديرية المخابرات والقضاء العسكري ومفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية.
الثالث أمني ــــ سياسي، وتولّته الاستخبارات الأميركية بالتعاون مع دبلوماسيين أميركيين، وجرت لقاءات في بيروت وباريس وواشنطن مع شخصيات لبنانية يعتقد بأنّها يمكن أن تتحدّث مع حزب الله من أجل الأمر. وتردّدت معلومات عن مفاجأة تقول بأنّ شخصية سياسية لبنانية على صلة قوية بحزب الله اجتمعت مع الجانب الأميركي في باريس وسمعت الرسالة التي يفترض بها نقلها إلى بيروت.
وحسب المعلومات، فإنّ حصول الادّعاء على الفاخوري واضطرار القضاء إلى توقيفه، دفع بالجانب الأميركي إلى البحث عن وسائل أخرى، من بينها التقارير عن وضع صحّي معقّد يعانيه الفاخوري، وكان قرار نقله إلى مستشفى بعيداً عن الأعين، يهدف إلى التعمية على حقيقة وضعه الصحّي من جهة، وضمان حماية خاصة له بحجّة أنّ الأميركيين تبلّغوا معلومات عن احتمال تعرّضه للقتل. ثمّ ليتبيّن لاحقاً أنّ الهدف هو الحؤول دون مثوله أمام القضاء المدني بدعاوى قام بها أسرى سابقون لدى قوّات الاحتلال، وهو ما حصل.
بعد تشكيل الحكومة الجديدة، وصل إلى بيروت فريق أمني وقانوني، بينهم ممثل قانوني عن الفاخوري، وقام هذا الوفد بجولات شملت كلّ “المعنيين دون أيّ استثناء”، وصولاً إلى رئاسة الحكومة الجديدة وإلى وزيرة الدفاع أيضاً. وكان الكلام مزدوجاً. الأوّل يطالب بإطلاقه لأسباب صحّية، والثاني التلويح بمشروع قانون قابل للتشريع ويقضي بإعلان الولايات المتحدة الخصومة المباشرة مع كلّ الذين يتورّطون في قضيّة الفاخوري. وقال مندوب أميركي لأحد المسؤولين اللبنانيين صراحة: إذا مات الفاخوري في بيروت، فسوف تتمّ معاقبة لائحة تشمل أكثر من 25 شخصاً، بينهم وزراء وقضاة وضبّاط كبار وقانونيون وموظّفون إداريون يتحمّلون جميعاً المسؤولية عن موته. وإنّ العقوبات ستشملهم على طريقة من تتهمهم الولايات المتحدة بالتعاون مع حزب الله وبالتعرّض لحياة مواطن أميركي.
وبحسب المعطيات، فإنّ النتيجة كانت على الشكل الآتي:
ــــ هلع غير مسبوق في جانب الفريق القريب من الرئيس عون، ولمّا كان الأخير يرفض الموافقة على الطلبات الأميركية، جاء من هو قريب منه ليدعوه إلى تغليب مصالح لبنان العليا، وأنّ لبنان اليوم ليس في وضع يسمح له بالدخول في مواجهة إضافية مع واشنطن.
ـــ خوف ورعب من جانب قضاة وضبّاط كبار، تعرّضوا كما يقولون لتهديد بتجميد حساباتهم ومنعهم من السفر ومقاضاتهم أمام محاكم أميركية وعالمية بتهمة قتل الفاخوري.
ـــ تراجع متوقّع من جانب قيادات عسكرية وأمنية تسعى إلى تطوير علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية، وهي قاربت الأمر من زاوية أنّ الفاخوري ليس قضيّة مهمّة يجب التوقّف عندها الآن.
وخلال الأسبوع الماضي، تسارعت الاتصالات بين جميع الأطراف، وعمد رئيس المحكمة العسكرية القاضي حسين العبدالله إلى إبلاغ حزب الله أنّ هناك وجهة لدى قضاة المحكمة العسكرية بقبول الدفوع المقدّمة من وكلاء الفاخوري، وأنّ أربعة من القضاة سيوافقون. ولكنّ موقف حزب بالله الذي تبلّغه رئيس المحكمة قال بأنّ الحزب يحترم ويدعم الاتهام الذي وجّهته القاضية نجاة أبو شقرا إلى الفاخوري، وأنّه لا يرى أيّ منطق في اعتبار التهم قد سقطت بمرور الزمن. وسمع العبدالله من مسؤولين في حزب الله مباشرة:”إذا كنتَ تتعرّض لضغوط، ولا تستطيع مقاومتها، فأرجئ الجلسة إلى حين معالجة الأمر، بدل اتخاذ قرار ستحمل أوزاره في الدنيا والآخرة”. وانتهى التواصل بين الحزب ورئيس المحكمة بقول الأخير إنّه لن يفرج عن الفاخوري. موقف حزب الله نفسه تمّ إبلاغه أيضاً إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس، علماً بأنّ الأخير صار يتصرّف بطريقة مختلفة مع الجميع بعدما تبيّن له أنّه صار خارج الجسم القضائي، فيما يشيع العبدالله أنّه سيغادر لبنان نهائياً بعد إحالته على التقاعد.
وقبل ساعات من صدور القرار، تبلّغت السفارة الأميركية عبر مصدر أمني رفيع المستوى أنّ المحكمة العسكرية تتجه لإصدار القرار. لكنّ رئيس المحكمة عمد قبل صدور القرار، بأقلّ من ساعة، إلى الاتصال برئيس الحكومة ووزيري الدفاع والعدل مبلغاً مضمون القرار، ليتبيّن بعد مرور وقت قصير أنّه تمّ تسريب القرار إلى الإعلام، بينما كانت خلية في السفارة الأميركية في بيروت تستعد لتسلّم قرار الإخلاء والعمل على نقل الفاخوري إلى السفارة في عوكر. وتمّ حجز طائرة طبّية كان مقرّراً أن تأتي إلى بيروت من اليونان، لكن تقرّر أن تنتظره في قبرص حيث يفترض أن يتمّ نقله من هناك إلى مستشفى عسكري أميركي في ألمانيا قبل إعادته إلى الولايات المتحدة الأميركية، وهو الأمر الذي لم يكن ممكناً التثبّت من حصوله حتّى ليل أمس. فبعد إصدار قاضي الأمور المستعجلة في النبطية، أحمد مزهر، قراراً بمنع الفاخوري من السفر (بناءً على استدعاء مقدّم من الأسرى المحرّرين: سهى بشارة، جهاد عواضة، علي درويش ونبيه عواضة، عبر وكيليهم المحاميين حسن بزي وهيثم عزو)، لم يعد ممكناً إخراج العميل بصورة شرعية من البلاد. وفيما يُنتظر أن يتقدّم وكلاء الدفاع عنه بطلب نقض قرار مزهر، تقدّمت النيابة العامة لدى محكمة التمييز العسكرية بطلب نقض قرار المحكمة العسكرية الصادر أوّل من أمس، والذي قضى بكفّ التعقّبات بحقّ الفاخوري.
(المصدر:جريدة الأخبار)
“محكمة” – الأربعاء في 2020/3/18

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!